lundi 4 mars 2013

خواطر على طريق الدعوة جراح


الإهــــــداء

إلى أئمة الهدى ومصابيح الدٌّجى: من العلماء الربانيين ، والدعاة المخلصين المتجردين
إلى الشموع التى تحترق لتضئ للأمة طريق الحق والهدى ، إلى قواد سفينة الإنقاذ بقوة وجدارة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة
إلى وعى الأمة المستنير ، وفكر الأمة الحُرّ ، وقلب الأمة النابض
وأخيراً إلى جيل صحوتنا المباركة

محمد حسَّان



مقدمة

إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(1)
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيـراً ونساءً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً (2)
يا أيها الناس آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (3)
أما بعد :
فإنه لطريق طويل شاق  حافل بالعقبات والأشواك  محفوف بالفتن والأذى والابتلاء  مفروش بالدماء والأشلاء  يدوى فى جنباته عويل المجرمين من الكفار والمشركين والمنافقين والحاقدين الذين يملكون أحدث أبواق الدعاية  ومع ذلك فنهاية الطريق وإن طال  تتألق كالأمل  وتضئ كالشمس  وتشرق كالفجر  إمَّا عِزة وشهادة  وإمَّا جنَّة وسعادة
ذلكم هو طريق الدعوة إلى الله عز وجل  طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويوسف ومحمد – صلوات الله عليهم أجمعين – وطريق أتباعهم من العلماء المخلصين والدعاة الصادقين
ولو كان هذا الطريق سهلاً هيناً ليناً  مفروشاً بالزهور والورود والرياحين خالياً من العقبات والأشواك والصخور  آمناً من عويل المجرمين من المكذبين والمعارضين والمحاربين  لو كان الطريق كذلك لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة  ولاختلطت حينئذٍ دعوات الحق ودعاوى الباطل !!
وفى وقت تُشن فيه حملة شرسة ضارية وحرب ضروس هَوْجَاء على الإسلام وأهله شاء الحكيم الخبير جل وعلا أن يبزغ فى الأفق نور يشرق وأمل يتجدد  أضحى حقيقة كبيرة لا تنكر  بل وأفزعت هذه الحقيقة المشرقة العالم بأسره  فها نحن نرى كوكبة كريمة وثلة مباركة من طلائع البعث الإسلامى المرتقب  من شباب فى ريعان الصبا  وفتيات فى عمر الورود  كوكبة تنزلت بفضل الله فى كل بقاع الدنيا كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى  أو كنسمات ربيع باردة معطرة بأنفاس الزهور  تأتى هذه الكوكبة لتنضم إلى ركب الدعاة الكريم الموغل فى القدم  الضارب فى شعاب الزمان من لدن نوح عليه السلام  لتمضى على ذات الطريق مستقيمة الخُطى ، ثابتة الأقدام  تجتاز الصخور والحجارة والأشواك  نعم ، تسيل دماء  وتتمزق هنا وهناك أشلاء  ولكن الركب الكريم والموكب المبارك فى طريقه لا ينحنى ولا ينثنى ولا ينكص ولا يحيد  لأنه على ثقة مطلقة بنهاية الطريق  بانتصار الحق ومحق الباطل  فالحق ظاهر خالد والباطل زاهق زائل  ولن تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله – عز وجل – ولن يتمكن هذا الدخان الكثيف الأسود المتصاعد تباعاً من أوعية الغل والحقد والحسد المتأججة فى قلوب أعدائنا أن يحجب نور الله – جلَّ وعلا – فهيهات هيهات أين نور السُّهى من شمس الضحى؟!  وأين الثرى من كواكب الجوزاء ؟!

يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(1)
ولكن لكى تستمر مسيرة هذا الركب الكريم على طول الطريق  لابد له من دعاة مخلصين صادقين متجردين  لقيادة هذا الركب الطيب بكتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله-  – بفهم السلف الصالح – رضوان الله عليهم – وببصيرة نافذة ، ووعى حاضر، وفطنة عميقة لكل المؤامرات الموتورة  وألوان الحرب المسعورة التى تشن فى الليل والنهار لوقف هذا الركب الزاحف الممتد
ومن ثم يبرز دور الدعاة الصادقين الذين لا يعيشون لأنفسهم وذواتهم  بل يعيشون لدعوتهم ودينهم مؤثرين التعب والنصب على ما يراه الآخرون راحة وسكونا  وكيف يستريحون ويسكنون وهم يرون دماء أمتهم الجريحة تنزف بغزارة فى كل مكان
لذا  فالدعوة هى همهم بالليل والنهار  هى فكرهم فى النوم واليقظة  هى شغلهم فى السر والعلن  يضحون فى سبيلها بالوقت والجهد والمال  بل وبالمهج والأرواح  ويستعذبون فى سبيل إبلاغها البلاء والفتن والمحن والتعذيب  ويخوضون بدعوتهم معركة تلو معركة  فى عالم الواقع وعالم الضمير  فى عالم الواقع مع الشر والباطل والضلال  وفى عالم النفس والضمير مع الشهوات والأهواء والشبهات  ولا يعرف حجم هذه المعارك إلا من عرف حجم الباطل وقوته من ناحية وحجم التواءات النفس البشرية إذا طال عليها الأمد من ناحية أخرى
وتبرز أهمية هذا الطراز الخاص من الدعاة فى هذا التوقيت الحرج الذى تمر به الحركة الإسلامية لاسيما إذا علمنا أن العداءات الخارجية للصحوة الإسلامية لم تنجح ولن تنجح بإذن الله فى القضاء عليها نهائيةً لأنها رسالة الله – عز وجل – يحملها المخلصون الخالصون من أبناء الطائفة المنصورة الظاهرة على الحق فى كل زمان ومكان  ولكنهم يربكون الحركة إرباكاً شديداً عن طريق النفاذ إلى قلب الحركة واختراق صفوفها لبذر بذور النزاع والشقاق والخلاف وإشعال نار الفتن والأهواء لضرب الصحوة من داخلها  تطبيقاً عملياً لمقولتهم الخبيثة الخطيرة التى تقول: إن الشجرة لابد أن يتسبب فى قطعها أحد أغصانها!!
وهذه خواطر  جراح وأفراح  لابن من أبناء الصحوة  يألم لألمها ، ويحزن لحزنها ، ويسعد لفرحها  أقدمها على استحياء لإخوانى الفضلاء من الدعاة خاصة ومن أبناء الصحوة عامة  وإن كنت لعلى يقين جازم أنه لا ينبغى أن يتصدى للحديث عن هذا الموضوع الكبير  إلا من توفرت لديه الأهلية علماً وفهماً وعملاً  ولكن قد يتحرك المرءُ من منطلق الاحساس والشعور بالمسئولية الكبيرة الملقاة على عاتقه  لا من منطلق الشعور بالأهلية  والقاعدة تقول : "من عدم الماء تيمَّمَ بالتراب" والرسول  يقول : "الدين النصيحة (ثلاثا) قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(1)
فإن وفقت فذلك فضل الله عز وجل وإن أخطأت فاستغفر الله عز وجل وأطلب من الأحبة النصح والبيان  وأخيراً أسأل الله جل وعلا أن يجعلها نصيحة خالصة لوجهه وأن ينفع بها وأن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين إنه ولى ذلك ومولاه وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أبو أحمد محمد بن حسان
السعودية فى 26 جمادى الأول 1413هـ
الموافق 2 نوفمبر 1992م



الخاطرة الأولى
أسباب الخواطر

أسباب كثيرة دعتنى للحديث عن هذا الموضوع فى هذا التوقيت بالذات
الأول:
أن الأمة فى أمس الحاجة هذه الأيام إلى دُعاةٍ تتجمع عليهم القلوب وتتآلف حولهم النفوس  دعاةٍ ينطلقون من فهم صحيح ثابت لكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله   لتبصرة المسلمين بحقيقة دينهم من ناحية وتحذيرهم من المؤامرات التى تحُاك لهم فى الليل والنهار من ناحية أخرى  دعاةٍ يتحركون بدعوتهم خالصة لله جل وعلا وحده
لا يدعون إلى قومية أو حزبية أو عصبية
لا يدعون إلى مصلحة أو غنيمة أو هوى
لا يدعون إلى جماعة ويعادون الأخرى  فجماعتهم هى جماعة المسلمين  ومنهجهم هو القرآن والسنة  وإمامهم هو إمام الهدى ومصباح الدُّجى محمد  ومن سار على دربه من العلماء العاملين والدعاة الصادقين
نعم  إن الأمة فى حاجة شديدة إلى هذا الصنف من الدعاة فى وقت كثر فيه دعاةُ الباطل والهوى  الذين باعوا دينهم بعرضٍ من الدنيا حقير  فنافقوا الحاكم وهم يعلمون يقيناً أنه يحكم بغير ما أنزل الله  بل وإن أراد الحلًّ حللوا  وإن أراد الحرام حرمَّوا!!
وإن كان الحاكم ديمقراطًّياً قالوا: وهل الديمقراطية إلا الإسلام ؟! ولما كان الحاكم اشتراكًّياً باركوا الاشتراكية وقالوا: وهل خرجت إلا من عباءة الإسلام ؟!
والضحية فى النهاية هى الأمة المسكينة التى تمزقت وتشرذمت خلف صياح القوميين تارة وزخرف الاشتراكيين تارة أخرى ونفاق الليبراليين تارة ثالثة وتدليس علماء الباطل من ناحية رابعة  والأخيرة هى القاصمة  لأن زلة العالِم زلة العالَم !! ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فى وصف هذا الصنف الخبيث من دعاة الباطل فقال: "علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعون إلى النار بأفعالهم فكلما قالت أقوالهم للناس هلمُّوا قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقَّاً كانوا أول المستجيبين لهم ، فهم فى الصورة أدلاء وفى الحقيقة قطاع طرق" (1)
الثانى:
أما السبب الثانى الذى دعانى للحديث فى هذا الموضوع الجليل  هو أننا نعيش أياماً قد كُلف فيها الذئاب برعى الأغنام !!
وراعى الشاه يحمى الذئب عنها فكيف إذا الرعاةُ لها الذئاب
وقد وصف النبى  هذه الأيام وصفاً دقيقاً كما فى حديث أبى هريرة   أنه  قال : "سيأتى على الناس سنواتُ خدَّاعاتُ ، يُصدًّق فيها الكاذبُ ويَكذًّب فيها الصادق ، ويُؤتمُن فيها الخائنُ ، ويُخوًّنُ فيها الأميُن وينطقُ فيها الرٌويبَضةُ قيل : وما الرٌويبَضةُ ؟ قال : الرجل التافهُ يتكلمُ فى أمر العامَّةِ"(2)
سبحان الله !! إنه وصفَ دقيقُ مِمَّن لا ينطق عن الهوى – بأبى هو وأمى -  فلقد أصبح اللادينيون والساقطون قادة الفكر والتوجيه وأرباب الأقلام التى تفُسح لها الصفحات ليكتبوا فى كل شئ وفى أى شئ حتى فى دين الله عز وجل بدون بينة ولا هدى من غير خجل أو وجل !!
وأفسَحت لهم الإذاعات المرئية والمسموعة الساعات الطوال لعرض "وفرض" آرائهم وأفكارهم للى أعناق الناس إليهم لَيَّا فى الوقت الذى شنت فيه هذه الإذاعات الحرب على دعاة الإسلام وشباب الصحوة بمنتهى السفور والفجور !
الثالث:
أما السبب الثالث الذى يُحزن الفؤاد ويوقظ كلَّ من غطَّ فى الرقاد هو ما نراه ونسمعه ونقرأه من حملة شرسة مسعورة سافرة على الإسلام بصفة عامة وعلى الشباب المسلم بصفة خاصة حتى أصبح ما يسمونه بالتطرف الدينى لصيقاً بهم وحدهم دون غيرهم وَجُند لتأكيد هذا والدندنة حوله بمناسبة وبغير مناسبة كثيرُ من الكُتاب والصحفيين والمفكرين بل ومن علماء المسلمين بقصد أو بدون قصد !
وراحوا يركزون على إبراز بعض التصرفات الخاطئة من بعض الشباب المتحمس الذى انصرف عنه العلماء فانصرف ينهل من بطون الكتب فوقع فى بعض الأخطاء فهماً وسلوكاً فوضعوها تحت المجاهر المكبرة لخلق حالة من الرعب والإرهاب الفكرى لشلِ حركة الدعوة إلى الله عز وجل ولتشويه صورة الحركة الإسلامية بأسرها
وفى الوقت الذى يُمارس فيه "التطرف" بكل قوة وشراسة ووحشية فى جميع أنحاء العالم !!
فأين هم من التطرف اليهودى الذى يُمارس بعنجهية واستعلاء ضد المسلمين فى فلسطين الذبيحة ؟!
وأين هم من التطرف النصرانى الصربى الذى يُمارس بإبادة ووحشية – تخلع القلب وتُذيب الفؤاد – ضد المسلمين فى البوسنة والهرسك على مرأى ومسمع من أدعياء الحرية وَمرُوَّجى مسرحية السلام ؟!
وأين هم من التطرف الوثنى الذى يُمارس بقوة ضد المسلمين فى الهند ؟!
وأين هم من التطرف الأوروبى والأمريكى فى معالجة المشاكل والأزمات ؟!
وأين هم من التطرف الأخلاقى وأساطينه الذين يجاهرون بالمعاصى ويبارزون الله بها فى الليل والنهار ، فلا نجد من يهشهم ولا يعكر عليهم صفوهم  بل نراهم آمنين مطمئنين تصفق لهم الجماهير ، وتهتف لهم الدنيا ، وتُصاغ لهم الأمجاد ، وتذلل لهم الصعاب ، وتفتح لهم الأبواب !!!
فهل من الإنصاف والعدل أن نُلقى باللوم والغضب والتشهير والتحقير والسخرية والازدراء على الشباب الذى يعلن إسلامه ويطالب به فى الوقت الذى نبتسم فيه ابتسامة عريضة لهذا الشباب الماجن الخليع!!
وهل من الإنصاف والعدل أن نسخر من الفتاة الطاهرة التى تسربلت بسربال الحياء والمروءة والشرف والعفة وأن نفخر بالفتاة الكاسية العارية المائلة ! تلك إذاً قسمة ضيزى
ومع هذا كله :








السبب الرابع:
هو نشاط دعاة الباطل لباطلهم من منصرين وشيعة وعلمانيين  ومما يؤلم القلب ما ذكره الدكتور عبد الودود شلبى حيث يقول: "أذكر أننى ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين فى مدريد وفى فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها "أيها المبشر الشاب : نحن لا نعدُك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير ، إننا ننذرك بأنك لن تجد فى عملك التبشيرى إلا التعب والمرض ، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن فى كوخ فقير  أجرك كله ستجده عند الله إذا أدركك الموت وأنت فى طريق المسيح كنت من السعداء(1)
هذا ما يقال لأهل الباطل ومع ذلك فهم يتحركون فى جميع أنحاء العالم حتى فى أماكن الأزمات والنكبات لا يرى الطفل المسلم والمرأة المسلمة إلا هؤلاء يقدمون الغداء والكساء والدواء ‍ عار علينا  وأى عار أن يتحرك أهل الباطل لباطلهم ولا يتحرك أهل الحق لحقهم!!
عار علينا أن نعلم أن "عدد المبشرين" – أى المُنصرين – فى العالم الآن أكثر من (22) ألف مبشر منهم (138) ألف كاثوليكى ، (82) ألف بروتستانتى ولا يكفى أبداً أن يتصدى لهم خمسة آلاف داعية إسلامى يعملون فى الخارج هنا وهناك وكيف يكفى خمسة آلاف وفى أندونيسيا وحدها أكثر من عشرة آلاف مبشر"(2)  
الخامس:
أما السبب الخامس والذى أختم به الحديث عن أسباب الخواطر  هو أننى كابن من أبناء الحركة الإسلامية المعاصرة أرى أن الحركة فى حاجة شديدة إلى وقفة تأمل ومراجعة شاملة ، ببصيرة نافذة ووعى حاضر وفهم دقيق ومنطق عميق للتعرف على حجم الإنجازات والأخطاء أيضاً  لتشخيص الداء وتحديد الدواء  وهذا هو ما نحاول أن نقدمه زاداً لأبناء الحركة على طريق الدعوة الشاق الطويل  فإن وقفت فمن الله وحده وإن أخطأت فمن نفسى ومن الشيطان والله ورسوله منه براء  ونسأل الله أن يجنبنا الزيغ والزلل ، إنه ولى ذلك ومولاه


الخاطرة الثانية
تبعة ثقيلة

حقاً  إنها تبعة ثقيلة  ولم لا ؟ وهى وظيفة الأنبياء والمرسلين الذين اصطفاهم الله عز وجل لحمل رسالته وتبليغها إلى الناس  لتعبيد العباد لله وإخراجهم من الظلمات إلى النور
وامتَّن الله جل وعلا على لبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد  فأبقى هذه الوظيفة الشريفة فى أمته من بعده إلى يوم القيامة  فورث علماءُ أمته هذه التركة الضخمة ، والمسئولية الكبيرة ، والشرف العظيم  شرف الدعوة إلى الله عز وجل
وفى الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود  أن النبى   قال : "ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تَخْلْفُ من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبةُ خردل"(1)  
فانطلق هؤلاء الحواريون والأصحاب ومن تبعهم بإحسان مقتفياً أثرهم سالكاً طريقهم انطلقوا براية الدعوة إلى الله عز وجل تاركين الديار والأوطان باذلين فى سبيلها المُهج والأرواح ولا هَّم لهم سوى إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربَّ العباد ، ومن جوَرِ الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، فأعز الله بهم الإسلام وارتفعت رايته على بلاد السند والهند والتركستان والصين وبلاد الروس شمالاً وقلب أوروبة  حتى قال "لين بول" فى كتابه "العرب فى أسبانيا" : " فكانت أوروبة الأمية تزخر بالجهل والحرمان بينما كانت الأندلس تحمل إمامة العلم وراية الثقافة فى العالم"
وقد جسد لنا هذا المَّد العظيم والسلطان الكبير أحدُ خلفاء المسلمين – الذى شوه الإعلام صورته وجعله رجل ليل وغناء ونساء ‍‍ - إنه هارون الرشيد – رحمه الله تعالى – الذى وقف يوماً ليخاطب السحابة فى كبد السماء ويقول لها: أيتها السحابة أمطرى حيث شئت ، فسوف يُحمل إلينا خراجك إن شاء الله ‍‍‍
ثم إنه خلف من بعدهم خلوف  خلدوا إلى الأرض  إلى الوحل والطين  عاشوا لأنفسهم وشهواتهم ونزواتهم ورغباتهم الحقيرة  عاشوا لكراسيهم الزائلة  عاشوا لعروشهم وفروجهم  فانحسر هذا المد المبارك بل وهانت الأمة  وضاعت هيبتها وزال سلطانها وولى مجدها ومسخت هويتها  بل واحتلت أرضها  وطمع فيها الضعيف قبل القوى والذليل قبل العزيز  والبعيد قبل القريب  وتكالبت عليها أممُ الأرض كما تتكالب الأكلة على قصعتها  وتحقق فيها قولُ من لا ينطق عن الهوى – بأبى هو وأمى – ما فى حديث ثوبان "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلةُ إلى قصعتها ، قيل: يا رسول الله ‍ فمن قلة يومئذٍ ؟ قال: لا ولكنكم غُثاء كغثاء السيل ، يُجعل الوهن فى قلوبكم ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم لحُبَّكم الدنيا وكراهيتكم الموت"(1)
نعم  غثاء كغثاء السيل  لا وزن له ولا تأثير  مليار مسلم منهم الظالم لنفسه والمقتصد ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله فى الوقت الذى يزيد فيه عدد الكفار على أربعة مليارات نسمة "حيث أن تعداد سكان العالم قد بلغ خمسة مليارات نسمة تقريباً طبقاً لبعض الإحصاءات الحديثة"(1)
فَمَنْ لهؤلاء ؟‍ من يدعوهم إلى الله عز وجل ؟‍ من يقيم عليهم حُجَّة الله فى الأرض؟‍ من يستنقذهم من عذاب الله فى الآخرة ؟‍‍‍! من يتحمل تبعة هؤلاء ؟! لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ألم أقل لكم إنها تبعة ثقيلة !!
إنها تبعة تقصم الظهر وتخلع الفؤاد !!
إنها الأمانة الكبيرة الكبيرة  فإما أن نكون أهلاً لها بتأديتها وإبلاغها وإما أن نكون "خونة" بتضييعها ونسيانها!!
قال الله عز وجل: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً(2)
بل ويخاطب الله جلا وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم الذى أمره بالقيام قم فأنذر فقام ولم يقعد حتى لقى الله عز وجل يخاطبه ربه بقوله سبحانه :  قل إنى لن يجيرنى من الله أحد ولن أحد من دونه ملتحدا إلا بلاغاً من الله ورسالته
"هذه هى القولة الرهيبة التى تملأ القلب بجدية هذا الأمر ، أمر الرسالة والدعوة ، والرسول  يؤمر بإعلان هذه الحقيقة الكبرى ، إنى لن يجبرنى من الله أحد ولن أجد من دونه ملجئاً أو حماية إلا أن أبلغ هذا الأمر وأؤدى  يا للرهبة  ويا للروعة  ويا للجد، إن الدعوة ليست تطوعاً يتقدم بها صاحب الدعوة إنما هو التكليف الصارم الجازم الذى لا مفر من أدائه فالله من ورائه ، وإنها ليست اللذة الذاتية فى حمل الخير والهدى للناس ، إنما هو الأمر العلوى الذى لا يمكن التفلت منه ولا التردد فيه ، وهكذا يتبين أمر الدعوة ويتحدد إنها تكليف وواجب وراءه الهول ووراءه الجد ووراءه الكبير المتعال  وليعرف الدعاة أن أمامهم واجباً ثقيلاً لأنهم أتباع محمد  وهو حجة الله على الناس"(1)  
فالدعوة إلى الله عز وجل واجب هذه الأمة الخاتمة التى اختارها الله جل وعلا للقيادة – بقوة وجدارة – بما معها من الحق الذى قامت من أجله السموات والأرض وخلقت الجنة والنار وأنزل الكتب وأرسل الرسل !
"فالمسلم لم يُخلق ليندفع مع التيار ويساير الركب البشرى حيث اتجه وسار ، بل خُلق ليوجه العالم والمجتمع والمدينة ، ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويُملى عليها إرادته لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم اليقين ، ولأنه المسئول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، ولكن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهى ، وإذا تنكر له الزمان ، وعصاه المجتمع ، وانحرف عن الجادة ، لم يكن له أن يستسلم ويخضع ويضع أوزاره ويسالم الدهر ، بل عليه أن يثور عليه وينازله ويظل فى صراع معه وعراك حتى يقضى الله فى أمره "(2)  
فلابد إذن من الدعوة والبلاغ  ولقد دلت الأدلة على القرآن والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وأنها من أكرم الفرائض التى افترضها الله عز وجل على هذه الأمة المباركة ومن هذه الأدلة القرآنية:
قول الله عز وجل:  ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون(3)
قال الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى - : ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله فى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأولئك هم المفلحون  وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه"(4)  
ومنها قول الله عز وجل : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن(1)
ومنها قول الله عز وجل : فادع واستقم كما أمرت(2)
ومنها قول الله عز وجل : وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين(3)
ومنها قول الله عز وجل : قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين(4)
يقول ابن القيم – رحمه الله – " فلا يكون الرجل من أتباعه حقاً حتى يدعو إلى ما دعا إليه ويكون على بصيرة” (5)
يقول الحافظ ابن كثير – رحمه الله تعالى - : "وإنما حازت الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله، وبعثــــه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبى قبله ولا رسول من الرسل  فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه"(6)
أما الأدلة النبوية فهى أيضاً كثيرة ومنها:
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما: أن النبى  قال : "بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار"(7)
قال الحافظ ابنُ حجر – رحمه الله تعالى - : "وقال فى الحديث "ولو آية" أى واحدة ليسارع كل سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآى ولو قل ليتصل بذلك نقل جميع ما جاء به  (1)  هـ
قلت: سبحان الله !
فكم من المسلمين يحفظ مئات الآيات وعشرات الأحاديث ولكنه مضيع لأمر رسوله الذى يدل على الوجوب حيث لم تأت قرينة تصرفه من الوجوب إلى غيره نسأل الله السلامة والعافية
ومنها  حديث عبد الله بن مسعود  قال: سمعت رسول الله   يقول: "نضًّر الله امرأ سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فَرُبَّ مبلغ أحفظ من سامع"( )  وفى رواية : "فرب مبلغ أوعى من سامع"
وفى خطبته يوم النحر قال : " ليبلغ الشاهد الغائب فإنَ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعَى له منه"( )
وهكذا تظل هذه القاعدة الجليلة باقية خالدة ترن فى إذن الزمان والأيام ألا وهى ليبلغَ الشاهدَ الغائبَ
ومنها قول النبى : "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً"( )
ومنها قوله لعلى بن أبى طالب  : "فو الله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْم النَّعَم"( )
سبحان الله ! يا له من فضل عظيم لا يتخلى عنه إلا عاجز محروم  كل طاعة لله عز وجل يقوم بها هذا الذى هداه الله على يديك يثقل بها ميزانك من حيث لا تدرى فى حياتك بل وبعد موتك ! هذا هو شرف الدعوة إلى الله عز وجل
وهكذا يتضح لنا من خلال الأدلة السابقة – الموجزة – حكم الدعوة إلى الله عز وجل
يقول شيخنا ابن باز – حفظه الله تعالى - : "والدعوة إلى الله – سبحانه وتعالى – على حالين :
إحداهما : فرض عين
والثانية : فرض كفاية
فهى فرض عين عند عدم وجود من يقوم باللازم كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا كنت فى بلد أو قبيلة أو منطقة من المناطق ليس فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنت عندك علم فإنه يجب عليك عيناً أن تقوم بالدعوة وترشد الناس إلى حق الله وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر  أما إذا وجد من يقوم بالدعوة ويبلغ الناس ويرشدهم فإنها تكون فى حق الباقين العارفين بالشرع سُنة لا فرضاً"( )
ثم يبين الشيخ – حفظه الله – حكم الدعوة فى عصرنا الراهن فيقول: "ونظراً إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهَّدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة ، وانتشار الدعوة النصرانية فى الكثير من البلدان وغير ذلك من الدعوات المضللة ، نظراً إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضاً عاماً وواجباً على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام ، فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا وأن لا يتقاعسوا عن ذلك فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والإشتراك والتكاتف فى هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ، ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصدَّ عن سبيل الله والتشكيك فى دينه ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامى ودعوة إسلامية على شتى المستويات وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة ، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله"( )
ومع كل هذا نرى سلبيةً قاتلة عند الكثيرين انطلاقاً من فهم مغلوط مقلوب لقول الله عز وجل :  يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( )
وقد خشى الصديقُ   – من قبل – هذه السلبية الناتجة عن هذا الفهم الخاطئ فقام فى الناس خطيباً ليوضح لهم المعنى الصحيح لهذه الآية الكريمة  فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإنكم تضعونها فى غير موضعها وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه"( ) وفى رواية صحيحة أخرى قال: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه"
فالواجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر حسب استطاعته وقدرته فإن لم يستجب له الناس فى هذه الحالة فلا ضير يلحقه من تقصير غيره – إن شاء الله- لأنه حينئذٍ يكون قد أدى الواجب الذى عليه
ويعلق شيخ الإسلام وحسنة الأيام – ابن تيمية – على هذه الآية السابقة ويقول: "والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضُلال  وذلك يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد  فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر فى فعله ومن لم يفعله فليس بمؤمن كما قال النبى   : "وذلك أضعف الإيمان" وقال: "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" وقيل لابن مسعود –   – مَنْ ميتُ الأحياء؟ فقال الذى لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً  وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهى تأويلاً لهذه الآية(*) والفريق الثانى ، من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقاً من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر عليه  فإن الأمر والنهى وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر فى المعارض له فإن كان الذى يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر  لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته  ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً فى معصية الله ورسوله" ( )اهـ
هذا – بإيجاز – هو حكم هذه التبعة الثقيلة وهذا الشرف الكبير فى آن  فلنكن أهلاً لهذه الأمانة الكبيرة  ولنتحرك جميعاً كل بحسب طاقاته وقدراته  فشتان شتان بين زهرة حية تنشر أريجها وتطيب المكان بريحها وعبيرها وبين زهرة صناعية لا تحمل من عالم الزهور إلاَّ اسمها !! ‍‍
وكأنى انظر – الآن – إلى صديق الأمة أبى بكر  وهو يردد شهادة التوحيد بين يدى رسول الله  فى هدوء ويقين  دون تلعثم أو تردد ‍‍
وكيف يتلعثم الصديق – صاحبُ القلب الحى الكبير أو يتردد وهو الذى ما فارق صاحبه الأمين سنواتٍ طوالاً  فلم يره كذب مرة أو خان أمانة أو أخلف وعـداً أو غدر عهداً قط ‍‍!!
بل ‍‍لقد ملأ شبابه ربوع وأرجاء مكة المكرمة شرفاً وطهراً وعفة وكرامة !!
فلم تأخذه عن الطهر نزوة ولم تنزله عن علياء العظمة دنية ولم تكن قريشُ مجاملةً له أو ممتنةٍ عليه يوم أن خلع عليه إجماعها فى بيت الله الحرام لقب "الأمين" يوم أن كادت الفتنة تعصف بأشرافها !!
فكيف يتردد أصحاب العقول النيرة والقلوب الحية الخيرة فى تصديق هذا الأمين الطاهر الذى فاضت طهارته على جميع العالمين  كيف يتعلثم الصديق  فى تصديق صاحبه الأمين الذى لم يكذب على أهل الأرض قط ! فهل من الممكن أن يكذب على رب السماء والأرض ؟! مستحيل  ومن يومها  بعد أن شرح الله صدره للإسلام لم يهدأ له بال  ولم يقر له قرار ، بل لقد تحرك بهذا النور يدعو إلى الله عز وجل كل من يثق فى رجاحة عقولهم من أصحابه والمقربين إليه – فإن الدعوة لا زالت فى طورها السرِّى- ولم يلبث إلا قليلا وقد عاد الصديق المبارك بخمسة من أشراف قريش ومن سادة الناس شرح الله صدورهم للإسلام بدعوة أبى بكر  أتدرون من هم هؤلاء الأشراف الكرام؟
عثمان بن عفان  والزبير بن العوام  وعبد الرحمن ابن عوف    وسعد بن أبى وقاص  وطلحة بن عبيد الله  
الله أكبر  هؤلاء الأعلام الأطهار مرة واحدة !  إنها أولى بركات الدعوة إلى الله عز وجل
فهيا – أيها الأحباب – لدين الله  لدعوة الله عز وجل  وإن ابتلينا وأوذينا وضُيق علينا  هيا لنسير على نفس الطريق الذى سار عليه من قبل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين  هيا لنحوز هذا الشرف الكبير والفضل الجزيل  ومن أحسن قولاً مما دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين( )  هيا لنعلن فى وجه الباطل الذى أعلن عن دعوته فى تبجح واستعلاء بل وفخر وخيلاء !!  فنعلن له دعوتنا فى عزة وإباء ونقول بملء أفواهنا هذه دعوتنا  دعوة الأنبياء والمرسلين دعوة لا تمالئ حاكماً ولا تنافق ظالماً ولا تتعايش مع كل قيم الباطل الزائفة !!
هيا لنتحرك جميعاً لدين الله عز وجل
أخاطبك أنت – أيها الداعية الحبيب – يا من يحترق قلبك على واقع أمتك الجريحة  أخاطبك لتنشط فى دعوتك  لتبذل أقصى الطاقة فى مهمتك  لتجعل الدعوة هَّمك بالليل والنهار  وفكرك فى النوم واليقظة  وشغلك بالسر والعلن
وأخاطبك أنت – أيها المسلم الغيور – يا من يعتصر قلبه حزناً على حال أمته التى هانت  اعلم أنك تتمنى أن لو كلفت بعمل أى شئ  فأصغ سمعك ، وأحضر ذهنك ، واستجمع همتك لتتعرف على دورك ومهمتك  لأن الدعوة إلى الله عز وجل بضوابطها الشرعية وقواعدها المرعية إن كانت مهمة الدعاة الذين توفرت لديهم الأهلية العلمية  فإن المسلم أيضاً له دعوة  فإن لم يكن بلسانك العذب الرقيق وبكلامك السهل البسيط فبسلوكك الإسلامى الكريم  فنحن الآن فى أمس الحاجة إلى أن نحول الإسلام إلى واقع إلى منهج حياة  بل إن أعظم وأجل خدمة نقدمها اليوم للإسلام هى أن ننتقل من صورة الإسلام إلى حقيقة الإسلام  خاصة ونحن نعيش زماناً أصبح يُحكم فيه على الإسلام كدين من خلال الواقع العملى المر للمسلمين !!
وإن كنت – أخى المسلم الحبيب – ممن رزقه الله مالاً فاجعل جزءاً من هـذه المال للدعوة  للمساهمة فى أعباء الدعاة والدعوة  بطبع كتاب  أو بإرسال بعض الدعاة المخلصين إلى أى بلدٍ من بلدان العالم للدعوة والبلاغ  فإن الأموال تنفق بسخاء رهيب على "المنصرين" فى جميع أنحاء العالم لتنشيطهم فى دعوتهم للصد عن سبيل الله فى الوقت الذى تنفق فيه الملايين من أموال المسلمين فى الباطل والحرام أو إن شئت فقل للصد أيضاً عن دين الله عز وجل !! فمن للدعوة  والدعاة إلى الحق ؟!
وأخيراً – أخى الكريم - :
لا تحقرن من المعروف شيئاً فإن الجبال من الحصى
والله جل وعلا يقول : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره( )
والرسول  أخبرنا عن امرأة دخلت النار فى هرة وعن رجل دخل الجنة فى كلب!!
وأخاطُبكِ أنت – أيتها الأخت المسلمة – يا اصل العز والشرف والحياء  يا صانعة الأجيال  يا مُربية الرجال  يا من تربعتْ طيلة القرون الماضية على عرش حيائها تهز المهد بيمينها وتزلزل عروش الكفر بشمالها  يا من تصفعين كل يوم دعاة الباطل والكذب والفجور !!
يا دُرةً حفظت بالأمس غاليةً واليومَ يبغونها للهو واللعب !
يا حْرةً قد أرادوا جعلها أمةً غريبة العقل غريبة النسب !
أخاطبُكِ – أختى الفاضلة – محذراً ومذكراً  محذراً من المؤامرات التى تحاك للمرأة المسلمة فى الليل والنهار للزج بها فى المستنقع الأسن  مستنقع الرذيلة والعار بإغرائها دوماً – وبكل السبل – لإخراجها عن دائرة تعاليم دينها الذى جاء ليضمن لها الكرامة والسعادة فى الدنيا والآخرة
ومذكراً  بأنك درتنا المصونة  ولؤلؤتــنا المكنونة  والذى يعرف الإسلام  يعلم حقيقة مكانة المرأة المسلمة  وما هذه الضوابط الشرعية التى وضعها الإسلام للمرأة – والتى يسميها أدعياء التقدم قيوداً وأغلالاً – إلا حمايةً لك من عبث العابثين ومجون الماجنين وعويل ذئاب البشر الجائعين  وكيف لا ؟
وأنتِ الأم والبنت والأخت والزوجة !!
ووالله لا أعلم ديناً قد كرم المرأة كما كرمها الإسلام  وها هو القرآن يعلن فى إذن كل سامع وعقل كل مفكر هذه الحقيقة يقول الله سبحانه : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً( )
ويأتى الأمر من رسول الله  واضحاً لتكريم المرأة فيقول: "استوصوا بالنساء خيراً"( )
وكثيرة هى الآيات والأحاديث فى هذا الباب وليس قصدى هو البسط ولكنه التذكير بمكانة المرأة ودورها فى المجتمع المسلم وما يجب عليها أن تؤديه  وإن أعظم خدمة تؤديها المسلمة لدينها فى هذه الأيام هى أن تتعرف جيداً على دينها وأن تعتز بإسلامها وأن تقول لربها ونبيها  ما قاله المؤمنون والمؤمنات من قبل: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير  كما أن عليها واجباً عظيماً فى تعليم العلوم الشرعية التى تصحح بها عقيدتها وعبادتها وسلوكها وأخلاقها وإن منَّ الله عليها بالعلم الشرعى التى تصحح بها عقيدتها وعبادتها وسلوكها وأخلاقها وإن من الله عليها بالعلم الشرعى وجب عليها أيضاً – حينئذٍ – أن تعلم أخواتها وأن تأخذ بأيديهن إلى الحق والهدى  وأن تبين لهن ما يحيكه أعداء الإِسلام من مؤامرات فى الليل والنهار لإخراج المسلمة عن دينها !! أما عن رسالة الأمومة والتربية فلن أزيد على أن أقول: نريد أن تُخَّرجى لنا من جديد  خالد بن الوليد وصلاح الدين ومحمد الفاتح وابن تيمية وأحمد وغيرهم من المجاهدين الصادقين والعلماء والدعاة المخلصين( )
وأخيراً:







فهيا لنتحرك جميعاً للدعوى إلى الله عز وجل فى الليل والنهار فى كل مكان  فى المسجد  فى البيت  فى المصنع  فى الشارع  فى المدرسة  فى السوق  فى المتجر  فى كل مكان  فنحن ركب سفينة واحدة  إن نجت نجونا جميعاً وإن غرقت غرقنا جميعاً  كما فى حديث النعمان بن بشير  أن النبى  قال:
"مثلُ القائم على حدود الله والواقع كمثل قوم استهموا على سفينة فأصحب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مُّروا على من فوقهم فقالوا لو أن خرقنا فى نصيبنا خَرْقاً ولم نؤذِ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعاً"( )
ولكى نتحرك على بصيرة  تعالوا بنا لنتعرف على منهج أعظم دعاة عرفتهم البشرية  على منهج الأنبياء والرسل فى الدعوة إلى الله عز وجل


الخاطرة الثالثة
منهج الأنبياء والرسل فى الدعوة إلى الله

أحبتى فى الله:
هل أصبحت البشرية اليوم قادرةً – حقاً – على أن تقود نفسها بعيداً عن منهج الأنبياء والرسل ؟
سؤال خطير  يقفز إلى أذهان الكثيرين فى القرن العشرين حيث بلغت البشرية ذروة التقدم العلمى  فغاصت فى أعماق البحار والأنهار والمحيطات بل وصورت لنا ما يجرى على القاع  وانطلقت بعيداً بعيداً فى أجواء الفضاء  وفجرت الذرة واخترعت القنبلة النووية  واكتشفت كثيراً من القوى الكونية الكامنة فى هذا الوجود بل وحولت العالم كله إلى قرية صغيرة جداً عن طريق التقدم المذهل فى وسائل الاتصالات  فما يحدث هنا يسمع ويرى هناك فى التو واللحظة
وفى وسط هذه الثورة العلمية الهائلة نفخ كثير من شياطين البشر فى عقول وقلوب كثير من الناس دعوة التمرد على شريعة الله وعلى منهج الأنبياء والرسل بحجة أن فى الانقياد لمنهج الأنبياء والرسل حَجْراً وامتهاناً لهذا العقل البشرى الجبار الذى استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه من هذا التقدم العلمى المذهل ! وبحجة أن البشرية والإنسانية قد بلغت مرحلة الرشد التى تؤهلها لأن تختار لنفسها من المناهج والقوانين والأوضاع ما تشاء !! وبحجة ثالثة ألا وهى أن مناهج الدين لم تعد تساير روح العصر المتحررة المتحضرة !!!
ونحن لا ننكر أن البشرية قد وصلت إلى مرحلة من التقدم العلمى لا ينكرها إلا مكابر وقد بلغت فى هذا الجانب المادى شأناً بعيداً  ولكننا لعلى يقين جازم أيضاً أن الحياة ليست كُلها مادة ولا يمكن لطائر جبار أن يُحلق فى أجواء الفضاء بجناح واحد ! وحتى إن حاول ذلك ونجح لفترة – ولو طالت – فإنه حتماً ساقط منكسر !!
ومن أراد أن يتعرف على حقيقة هذا العقل البشرى الجبار فى الجانب الآخر  فى الجانب الدينى والروحى والإيمانى والأخلاقى والسلوكى والإنسانى  من أراد أن يتعرف عليه بعيداً عن منهج الأنبياء والرسل  فليراجع فى عُجالة إحصائيات الجريمة بكل أشكالها وصورها فى هذا العالم – المتحضر المتقدم – كما زعموا ليرى الانحدار الخلقى السحيق إنهم فى هذا الجانب أضل من البهائم كما قال الله عز وجل: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا( ) انظر لترى: "أمة تعرف كل شئ إلا الله  وتقرأ كل شئ إلا القرآن  وتؤمن بكل شئ إلا الإسلام  وتخاف من كل شئ إلا من الله
أمة إعلامها مرئياً ومسموعاً ومكتوباً ينشر الرذيلة والعهر ليلاً ونهاراً  أمام الذكر والأنثى  والصغير والكبير  بل يُدرس الجنس فى مدارسها بلا حياء ولا عفة وصحفها تموج بالفساد  والصور الماجنة  والمجلات الساقطة  والروايات والمسرحيات القذرة  وتروج الأفكار السَّامَة والمذاهب الباطلة
أمَّة تبيع الشرَّ كله  أمة تصنع السلاح ووسائل التدمير لا للدفاع بل للتدمير والاستعمار  أمة فيها الصدق ولكن لما يجلب لها من منفعة  فيها الابتسامة ولكن لمن ترجوه أو تخاف منه  أمة كالحيوانات فى الشهوة  وكالسباع فى القسوة  وكالشياطين فى محاربة القيم والكرامة  أمة فى الصناعة تعانق نجوم السماء  وفى المبادئ والأخلاق تهوى إلى قاع البحار  أمة اتخذت من المرأة مركباً يطؤ الحياء والطهر والعفاف وأوصلت المرأة إلى آخر محطة للرذيلة  فـأصبحت المرأة دمية يتسلى بها الرجال فى كل مكان  وتُرَّوج بها السلع  وتزين بها الكتب والصُحف وأحياناً ساقية لرجل ضائع  أو مسلية للتافهين فى أماكن الرذيلة  تعرض جسمها بلا حياء  تُهدر كرامتها فى شبابها  وتُرمى فى دور العجزة فى آخر عمرها  إنها أمة تنتهك كل حرمة ولا تفارق مائدة الشيطان فى الليل والنهار  إنها أمة ضلَّت وأضلت واتبعت الهوى وقادها شيـاطين الإنس والجن إلى فساد الأخلاق وخراب الديار وظلم العباد  إنها أمة غاب عنها الحق فتـمرغت فى الباطل  إنها أمة لم تعرف النور فوقعت فى الظلمات!!" ( )
هذا هو العقلُ البشرى الجبار فى الجانب المادى يهوى إلى قاع الرذيلة ومستنقع الضياع إذا انفك عن منهج الله على أيدى أنبيائه ورسله  هذا هو العقل البشرى إذا تحدى نور الوحى الإلهى  نعم  فهذا هو العقل الأمريكى الجبار يدافع عن العنصرية اللونية البغيضة  وما أحداث لوس أنجلوس منا ببعيد !! فى الوقت الذى يتغنى فيه بالحرية والديمقراطية !!
وهذا هو العقل الروسى "العفن" ينكر وجود الله تعالى وشعاره : نؤمن بثلاثة : ماركس ولينين وستالين ونكفر بثلاثة: الله والدين والملكية الخاصة( )
وهذا هو العقل الصينى الجبار "الكونفوشى" يقدم القرابين للشمس والقمر والكواكب والسحاب والجبال والملائكة وأرواح الآباء والأجداد !!( )
وهذا هو العقل اليونانى يدافع عن الدعارة !
وهذا هو العقل الرومانى يدافع عن مصارعة الثيران !
وهذا هو العقل الهندى يدافع عن إحراق الزوجة بعد موت زوجها !
وهذا هو العقل الهندى يدافع بحماس عن عبادة البقرة ! بل ويقول زعيمهم الكبير "غاندى" : "عندما أرى البقرة  لا أجدنى أرى حيواناً لأنى أعبد البقرة وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع" !!!
ومضى عابد البقر يقول: "إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال وأنا أعدُّ نفسى واحداً من هؤلاء الملايين"( )
وفى مكان آخر فى الهند أيضاً تقام المعابد الفخمة الضخمة التى تقدم لها القرابين وترسل لها البذور ولكن ! أتعلم يا ترى ما هى الآلهة التى تعبد فى هذه المعابد ؟! إنها الفئران نعم إنها الفئران !!! ( )
وهذا هو العقل العَرَّبى فى الجاهلية الأولى يدافع عن وأد البنات وعبادة الأصنام وها هو يدافع إلى يومنا هذا عن عبادة الصليب !! "من قِبَل النصارى"
بل وهــذا هو العقل القومى والبعثى يدافع عن الشرك والكفر باسم القومية العربية !!
فيقول قائلهم:
آمنت بالبعث ربَّا لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثانى !!
ويقول آخر:
هبونى عيداً يجعل العُرب أمةً وسيروا بجسمانى على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننــا وأهلاً وسهلاً بعـــده بجهنمِ !!
هذا هو العقل البشرى الذى فجر الذرة فى الجانب المادى يفجر الكفر واللإلحاد والزندقة فى الجانب الدينى !!
هذا هو العقل البشرى الذى عانق نجوم السماء فى الناحية العلمية يهوى إلى قاع الرذيلة فى الناحية الأخلاقية !!
هذا هو العقل البشرى حينما ينفك عن نور الوحى ، ويعرض عن منهج الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
نعم  لأن العقل له دوره وله وظيفته وله قدره ، ونور الوحى لا يطمس أبداً نور العقل  كلا  بل يباركه ويقويه ويزكيه بشرط أن يسلم العقل مع الكون كله لله رب العالمين  ثم لينطلق بعد ذلك مبدعاً فى مجاله عن هدى ويقين  وهو يعلم أن ما اكتشفه ووصل إليه كان موجوداً مودعاً فى هذا الكون منذ آلاف السنين  ولكنه ما أكتشفه إلا يوم أن أذن له الله أن يكشف سنريهم من آياتنا فى الأفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق( )
وبعد  هذه المقدمة الطويلة  نقرر أن الله جل وعلا وحده هو الذى خلق البشر وهو الذى يعلم ضعفهم وعجزهم وفقرهم ، ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن بل وما سيكون إلى يوم القيامة  لذا رحمة منه بعباده أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين  يذكرونهم ، ويبصرونهم ، ويحاولون استنقاذ فطرتهم ، وتحرير عقولهم من ركام الشهوات والشبهات ، ويأخذون بأيديهم إلى الحق الذى من أجله قامت الأرض والسموات
ومن ثم  "فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا فى الدنيا ولا فى الآخرة إلا على أيدى الرسل ، ولا سبيل إلا معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم ، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم ، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم  وما جاءوا به ، فهم الميزان الراجح الذى على أقوالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال ، وبمتابعتهم يتميز أهل الضلال ، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها  فأى ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير "( )
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – "الرسالة ضرورية للعباد لابد لهم منها وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شئ  والرسالة روح العالم ونوره وحياته فأى صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور ؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة  وكذلك العبد ما لم تشرق فى قلبه شمس الرسالة ، ويناله من حياتها وروحها فهو فى ظلمة وهو من الأموات ، قال الله تعالى: أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها( ) فهذا وصف المؤمن كان ميتاً فى ظلمة الجهل فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان وجعل له نوراً يمشى به فى الناس ، وأما الكافر فميت القلب فى الظلمات" ( )
"إن الذى يضع خطة الرحلة للطريق كله  هو الذى يدرك الطريق كله  والإنسان محجوب عن رؤية هذا الطريق ، بل هو محجوب عن رؤية بعض هذا الطريق بل هو محجوب عن اللحظة التالية ودونه ودونها ستر مسبل لا يباح لبشر أن يطلع وراءه، فأنى للإنسان أن يضع الخطة لقطع الطريق المجهول ؟! إنه إما الخبط والضلال والشرود  وإما العودة إلى المنهج المستمد من خالق الوجود  منهج الرسالات ومنهج الرسل ومنهج الفطرة الموصولة بالوجود وخالق الوجود  ولقد مضت الرسالات واحدة إثر واحدة ، تأخذ بيد البشرية وتمضى بها صعداً فى الطريق على هدى وعلى نور والبشرية تشرد من هنا وتشرد من هناك ، وتحيد عن النهج ، وتغفل عن حداء الرائد ، وتنحرف فترة ريثما يبعث إليها رائد جديد  وفى كل مرة تكشف لها الحقيقة فى صور مترقية تتناسب وتجاربها المتجددة حتى إذا كانت الرسالة الأخيرة كان عهد الرشد العقلى قد أشرق  فجاءت الرسالة الأخيرة تخاطب العقل البشرى بكليات الحقيقة ، لتتابع البشرية خطواتها فى ظل تلك الخطوة النهائية  وكانت خطوط الحقيقة الكبرى من الوضوح بحيث لا تحتاج بعد إلى رسالة جديدة  فإما أن تسير البشرية داخل هذا النطاق الشامل الذى يسعها دائماً ويسع لنشاطها المتجدد المترقى ، ويصلها بالحقيقة المطلقة التى لا تصل إليها عن أى طريق آخر  وإما أن تشرد وتضل وتذهب بدداً فى التيه ! بعيداً عن معالم الطريق !" ( )
"فالرسل هم موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشرى الموصول ، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير ، موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من البشر: نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وداود وموسى  وغيرهم ممن قصهم الله على نبيه  فى القرآن وممن لم يقصصهم عليه  موكب من شتى الأقوام والأجناس وشتى البقاع والأراضى ، فى شتى الآونة والأزمان ، لا يفرقهم نسب ولا جنس ولا أرض ولا وطن ولا زمن ولا بيئة: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليكم وكلم الله موسى تكليما  رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً( ) كلهم آت من ذلك المصدر الكريم ، وكلهم يحمل ذلك النور الهادى ، وكلهم يؤدى الإنذار والتبشير ، وكلهم يحاول أن يأخذ بزمام القافلة البشرية إلى ذلك النور  سواء منهم من جاء لعشيرة ومن جاء لقوم  ومن جاء لمدينة  ومن جاء لقطر  ثم من جاء للناس أجمعين  محمد رسول الله  خاتم النبيين"( )
ومن ثم  فإن من كفر بواحد منهم فقد كفر بهم جميعاً
نعم  فما كذب قوم نوح إلا نوحاً عليه السلام وبالرغم من ذلك قال الله عز وجل : كذبت قوم نوح المرسلين( )
وما كذب قوم لوط إلا لوطاً عليه السلام  وبالرغم من ذلك قال الله عز وجل: كذبت قوم لوط المرسلين( )
وما كذب قوم عاد إلا هود عليه السلام وبالرغم من ذلك قال الله عز وجل: كذبت عاد المرسلين( )
وما كذب قوم ثمود إلا صالحاً عليه السلام وبالرغم من ذلك قال الله عز وجل : كذبت ثمود المرسلين( )
وبين الله جل وعلا هذا الحكم الحاسم صراحة فى آية واضحة فقال سبحانه: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً( )
ومما يؤكد هذه الحقيقة بجلاء ووضوح أن دينهم جميعاً واحد هم "الإسلام"
نعم  فليس هناك دين عند الله تعالى يسمى اليهودية أو النصرانية أو الموسوية أو الإبراهيمية ! ولكنه دين واحد لم يتغير ولم يتبدل "إنه الإسلام" كما قال الله عز وجل: إن الدين عند الله الإسلام
ولم يرسل نبى ولا رسول – صلى الله وسلامه عليهم أجمعين – إلا بالإسلام من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليهما وسلم
فلقد جاء نوح – عليه السلام – بالإسلام
كما قال الله عز وجل: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلىَّ ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين( )
وجاء إبراهيم – عليه السلام – بالإسلام
قال تعالى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ، ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وإنه فى الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون( )
وجاء يعقوب – عليه السلام – بالإسلام
قال تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون( )
وجاء يوسف – عليه السلام – بالإسلام
قال الله عز وجل: رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولى فى الدنيا والآخرة توفنى مسلماً وألحقنى بالصالحين( )
وجاء موسى – عليه السلام – بالإسلام
قال تعالى: وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين( )
وما دخل السحرة – بعد أن شرح الله صدورهم للحق – إلا فى الإسلام قال الله عز وجل: وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون  قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكن وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين( )
وجاء سليمان – عليه السلام – بالإسلام
قال الله تعالى: قالت يا أيها الملؤ إنى ألقى إلى كتاب كريم إنه من سليمان وأنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا على وأتونى مسلمين( )
ودخلت – بلقيس – بعد أن أمنت  فى الإسلام
قال الله تعالى: قالت رب إنى ظلمت نفسى وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( )
وجاء عيسى – عليه السلام – بالإسلام
قال الله تعالى: فلما أحسن عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنَّا مسلمون( )
بل والإسلام أيضاً هو دين المؤمنين من الجن
قال الله تعالى: وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( )
ثم جاء لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم محمد  بالإسلام  وخاطبه ربه جل وعلا بقوله: إن الدين عند الله الإسلام( )
وبقوله سبحانه : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا( )
ولما كان دينهم جميعاً واحداً – هو الإسلام – وكان هدفهم جميعاً واحداً هو إخراج الناس من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد والإيمان ، ورد البشرية إلى ربهم جل وعلا وهدايتها إلى الحق وتربيتها بمنهج الحق  لهذا كله  كان منهجهم جميعاً واحداً
وأستطيع أن أحدد أبرز سمات هذا المنهج الكريم فى النقاط التالية:
أولاً:
البدء بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص وعبادة الله عز وجل وحده
نعم  فما من نبى ولا رسول إلا ودعا قومه – أول ما دعاهم – إلى التوحيد وعبادة الله وحده
وما من نبى ولا رسول إلا وحذر قومه – أول ما حذرهم – من الشرك
يقول الله عز وجل: ولقد بعثنا فى كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت( )
وقال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون( )
وبعد هذا الإجمال فإليك هذا التفصيل:
يقول الله عز وجل: ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إنى لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم( )
وقال تعالى: وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون( )
وقال تعالى: وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( )
وقال تعالى: وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( )
والتوحيد الذى دعا إليه جميع الأنبياء والرسل ليس مجرد كلمة تلوكها الألسنة ولكنه دين شامل  نعم فالتوحيد الخالص يتضمن من الكفر بالطاغوت والأنداد والأرباب والآلهة ومن الولاء والبراء ومن الإذعان والانقياد لله جل وعلا وحده وصرف العبادة كاملة إلى الله وحده ما يجعل صاحبه موحداً حقاً
والعبادة التى أمروا بها هى أيضاً العبادة الخالصة التى لا يشوبها شرك جلى أو خفى ، كما قال الله عز وجل : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا( ) ثم بين أن الشرك محبط لجميع الأعمال فقال سبحانه: ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون( )
ونظراً لأهمية هذه النقطة – نقطة البدء – فسوف أفرد لها خاطرة كاملة إن شاء الله تعالى
ثانياً: البلاغ والبيان:
يقول الله عز وجل: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين( ) ويمدح الله جل وعلا الذين يبلغون رسالات الله فيقول سبحانه: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا( )
يقول الحافظ ابن كثير فى تفسيرها: "يمدح تبارك وتعالى الذين يبلغون رسالات الله أى إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها ويخشونه أى يخافونه ولا يخافون أحداً سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى وكفى بالله حسيبا أى وكفى بالله ناصراً ومعيناً"
وقال تعالى: وما على الرسول إلا البلاغ المبين( )
وقال نوح عليه السلام مخاطباً قومه: أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون( )
وقال هود عليه السلام مخاطباً قومه: أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين( )
بل وخاطب الله جل وعلا نبيه بذلك صراحة فقال سبحانه وتعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله يهدى القوم الكافرين( )
إنه أمر حاسم من الله جل وعلا لنبيه الأمين  للقيام بمهمته فى البلاغ كاملة غير منقوصة وإلا فما بلغ وما قام بالواجب وحاشاه   بل
"سيد الناس فى هذا المقام بل وفى مقام محمد رسول الله  فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب  وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع  ثم  ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه  ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا فبنورهم يقتدى المهتدون وعلى منهجهم ليسلك الموفقون فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم"( ) اهـ
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها قالت: "من حدثك أن محمداً - - كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، إن الله تعالى يقول: يا أيها النبى بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته( )
وفى شأن البيان قال الله عز وجل: وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون( )
وقال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون( )
وقال عز وجل: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم( )
وهكذا تتضح بجلاء مهمة الأنبياء والرسل وتنتهى عند البلاغ والبيان – وفقط – وهذه هى هداية الدعوة والدلالة والإرشاد أما هداية التوفيق والتثبيت فهى بيد الله جل وعلا وحده لا يملكها ملك مقرب ولا نبى مرسل حتى ولو كان النبى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء( ) وقال عز وجل: إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ولا يقدر هذه المهمة حق قدرها إلا من عرف حجم قوة الباطل التى تقف للصد عن دين الله – من ناحية – وعرف حجم التواءات النفس البشرية إذا طال عليها الأمد من ناحية أخرى
خاصة وأن دين الله جل وعلا – الذى يبلغه ويبينه الأنبياء والرسل – ليس مجرد كلمات عابرة يلقيها الرسول أو النبى ثم يمضى ولا شأن له بعد ذلك  كلا ، بل لابد لهذا البلاغ والبيان من استمرار وصبر ومثابرة ومتابعة ونصح دائم لا ينقطع  بالرحمة والحكمة واللين لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ولتستقيم حياتهم فى الدنيا وينالون رضوان الله فى الآخرة
ثالثاً: البشارة والنذارة:
لقد خلق الله الناس جميعاً على الفطرة ، أى على التوحيد كما فى حديث أبى هريرة  أن النبى  قال: "كل مولود يولد على الفطرة" وفى رواية مسلم: "ما من مولود يولد إلا هو على الملة" "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"( )
وفى صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار  قال: قال رسول الله : يقول الله تعالى: إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم"( )
وهذه الفطرة السليمة النقية قد تفسد وتتغير بسبب ما يتعرض له الإنسان من ضغوط وفتن من داخل النفس وخارجها  وهى فتن كثيرة  فهناك فتنة الشيطان ووسوسته وإغرائه  وهناك فتنة الأهواء  وهناك فتنة الشبهات  والشهوات والركون إلى الدنيا وغيرها
ولعلم اللطيف الخبير – جل وعلا – بضعف الإنسان وعجزه وفقره  أرسل إليه الرسل ليربطوه بالمنهج الحق ، وليذكروه دائماً بالله ، بالترغيب والبشارة تارة والترهيب والنذارة تارة أخرى  فمن أطاعهم فله الجنة ومن عصاهم فله النار  فقال الله عز وجل: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين( )
وقال: جل شأنه رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً( )
وقال تعالى: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون( )
وخاطب الله نبيه محمد  بقوله: يا أيها النبى إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً( )
فمهمة الرسل واضحة جلية  يبشرون الناس بمغفرة الله تعالى ورضوانه وجنته إن هم وفوا بعهده ولم ينقضوا ميثاقه وإن هم أطاعوه وأطاعوا رسله وصدقوهم وينذرونهم عقاب الله جل وعلا إن هم عصوه ونقضوا عهده وكفروا به تعالى وكذبوا رسله
فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أى فلا خوف عليهم من عذاب الدنيا الذى ينزل بالجاحدين ولا من عذاب الآخرة الذى أعده الله للكافرين ولا هم يحزنون فى الدنيا أيضاً مما يحزن منه الكفار والفساق كفوات شهوات الدنيا ولذاتها ، أو لا يكون حزنهم كحزنهم فى شدته وطول أمده ، فإنهم إذا عرض لهم الحزن  يكون رحمة وعبرة مقروناً بالصبر وحسن الأسوة ، فالإيمان بالله يعصمهم من إرهاق البأساء والضراء ومن بطر السراء والنعماء: والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون أى والذين كذبوا بآياتنا التى أرسلنا بها الرسل يصيبهم العذاب فى الدنيا أحياناً ولاسيما عند الجحود والعناد  وفى الآخرة بسبب كفرهم وإفسادهم( )
رابعاً: إقامة حجة الله على الناس:
يقول الله عز وجل : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل  هكذا بجلاء ووضوح ولكنه – سبحانه وتعالى – "لم يبين هنا ما هذه الحجة التى كانت تكون للناس عليه – جل وعلا – لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل ولكنه بينها فى سورة طه بقوله: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى وأشار لها فى سورة القصص بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين( )
وقال سبحانه وتعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً( )
ويقيم الله جل وعلا الحجة على خلقه كذلك يوم القيامة فيأتى بكل رسول ليشهد على أمته بأنه قد بلغها رسالة ربه جل وعلا وبين لها وبشرها وأنذرها فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً( )
بل ولا ينكر أهل النار – عياذاً بالله – أن الرسل قد بلغوهم وأنذروهم وحذروهم ولكنهم كذبوا وعاندوا وأعرضوا عن الحق وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهى تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا فى ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير( )
يا لها من تبعة ثقيلة بمقدار ما هى عظيمة
"إن مصائر البشرية كلها فى الدنيا والآخرة سواء منوطة بالرسل وبأتباعهم من بعدهم ، فعلى أساس تبليغهم هذا الأمر للبشر تقوم سعادة هؤلاء البشر أو شقوتهم ويترتب ثوابهم أو عقابهم فى الدنيا والآخرة  إنه الأمر الهائل العظيم  أمر رقاب الناس أمر حياتهم ومماتهم  أمر سعادتهم وشقائهم  أمر ثوابهم وعقابهم  أمر هذه البشرية، التى إما أن تبلغ إليها الرسالة فتقبلها وتتبعها فتسعد فى الدنيا والآخرة ، وإما أن تبلغ إليها فترفضها وتنبذها فتشقى فى الدنيا والآخرة وإما ألا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها وتكون تبعة شقائها فى الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ !
فأما رسل الله – عليهم الصلاة والسلام – فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل  وهم لم يبلغوها دعوة باللسان ولكن بلغوها- مع هذا – قدوة ممثلة فى العمل ، وجهاداً مضنياً بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق وبقى الواجب الثقيل على من بعدهم  على المؤمنين برسالتهم  فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعدهم وتبليغ هذه الأجيال منوط بأتباعهم ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة  تبعة إقامة حجة الله على الناس  وتبعة استنفاذ الناس من عذاب الآخرة وشقوة الدنيا ( )
خامساً: تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق:
وأساس هذا المنهج الكريم هو ربط القلب البشرى بالله جل وعلا يرجوه ويخشاه، فينقاد لأوامره جل وعلا راجياً رضاه وينتهى عن نواهيه ويقف عند حدوده يخشى سخطه وعذابه  والله جل وعلا لم يأمر إلا بكل خير ولم ينه إلا عن كل شر إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون( )
ويقول سبحانه : قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولوا كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( )
ووسيلة الأنبياء والرسل جميعاً – عليهم الصلاة والسلام – إلى تحقيق هذا المنهج التربوى الربانى العجيب من تزكية للنفوس وتهذيب للأخلاق هى "القدوة"  نعم  فهم هداة البشرية  وهم معلموها وقادتها الذين يقودون سفينتها وسط هذه الرياح العاتية – رياح الشهوات والشبهات – إلى بر الإيمان والأمان !!
لأنه لا يكفى فى هداية الناس أن يسمعوا كلمة الخير والحق والهدى تلقى إليهم مجردة – وفقط – كلا بل لابد أن يروها مجسدة فى كيان بشرى يترجمها ويحولها إلى واقع ملموس وعمل مشاهد  وعندئذ تكون التكاليف على الناس سهلة ميسورة فى التحقيق والتطبيق  لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً( )
بل ويأمر الله تعالى نبيه محمد  – أستاذ البشرية ومعلم الإنسانية – أن يقتدى بالأنبياء والرسل من قبله فيقول سبحانه: أولئك الذين ءاتينهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( )
ألسنا نحن أحوج إلى هذا الأمر الجليل وإلى هذا الاقتداء الكريم ؟!
وهكذا تتضح لنا أبرز سمات هذا المنهج الكريم الذى يحدد بدقة مهمة الأنبياء ووظيفة المرسلين ومن ثم دور اتباعهم أيضاً الذين سيسلكون ذات الطريق فليس عليهم إلا أن يبلغوا الناس ويدعوهم إلى الله جل وعلا  دون أن يستعجلوا النتائج والمصائر ولا أن يحاسبوا الناس لا فى الدنيا ولا فى الآخرة  فهذا ليس من شأن العبيد – مهما كانوا – إنما هو من شأن العزيز الحميد (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب)
فلنبدأ المسير على طريق الدعوة الطويل ، ولتكن نقطة البدء ولبنة الأساس لدعوتنا هى العقيدة  التى كانت نقطة البدء ولبنة الأساس فى دعوة جميع الأنبياء والمرسلين


الخــاطرة الرابعــــــة
نقطة البدء

ذكرت فى الخاطرة الماضية أن دعوة الأنبياء والرسل على مدى التاريخ البشرى كله كانت تستهدف أمراً واحداً ألا وهو رد البشرية الضالة إلى ربها جل وعلا وهدايتها إلى طريقه وتربيتها منهاجه وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ظلمات الشرك والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان ، وتزكية نفوس أبنائها وتهذيب أخلاقهم
وكانت نقطة البدء على هذا الطريق الطويل  ولبنة الأساس الأولى فى هذا البناء الضخم الكبير  هى دعوة الناس إلى التوحيد الشامل  إلى عبادة الله وحده لا شريك له  إلى العقيدة الصحيحة الصافية
ولذا كانت الصيحة الأولى لكل نبى ورسول هى : أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
بدأ بها نوح – عليه السلام - : ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إنى لكم نذير مبين ألا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم( )
وبدأ بها هود – عليه السلام - : وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون( )
وبدأ بها صالح – عليه السلام - : وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( )
وبدأ بها شعيب – عليه السلام - وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره( )
وبدأ بها لبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد  وظل يدعو إليها فى مكة وحدها ثلاثة عشر عاماً وأكد النبى  على أن هذه القضية الكبيرة  قضية العقيدة  يجب أن تكون نقطة البدء أيضاً على طريق الدعوة الطويل لكل داعية صادق يحمل منهج الأنبياء والمرسلين
لذا كانت أول وصية لرسول الله  أوصى بها أول داعية له إلى اليمن – معاذ بن جبل –  
ففى الحديث الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى  قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : "إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" وفى رواية أخرى فى الصحيح: "إنك ستأتى قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله "( )
فلتكن هذه القضية الكبيرة – قضية العقيدة – هى أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هى أساس دعوتهم إليه أول مرة  ولا ينبغى أن تصدنا هذه المقولة الخبيثة التى تقول: إن الناس فى الماضى كانوا مشركين فلزم أن تكون العقيدة – حينئذ – هى أول ما ينبغى أن يدعوا إليه
ولكن الناس اليوم والحمد لله مسلمون يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله فما الداعى أذن لدعوة الناس إلى التوحيد  إلى العقيدة  إلى لا إله إلا الله ؟!
والجواب  أن قضية التوحيد لا يدعى إليها الكفار وحدهم لكى يؤمنوا بها ويصححوا اعتقادهم من خلالها بخلع رداء الكفر أو الشرك والدخول فيها
ولكن يدعى إلى قضية التوحيد أيضاً المؤمنون بها والمعتنقون لها والمستمسكون بها لكى تظل حية فى قلوبهم راسخة فى ضمائرهم عاملة فى واقع حياتهم ، لا يفترون عنها أبداً ولا يغفلون عن مقتضياتها  وإن أعظم دليل على ذلك قول الله جل وعلا : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً( ) هكذا يدعى أهل الإيمان إلى الإيمان
ولقد علم أعداؤنا جيداً أن الجذور الحقيقية التى تضمن البقاء والسيادة والعزة لهذه الأمة فى الأرض هى العقيدة فراحوا بخبث ودهاء يضعون الحواجز والسدود بين المسلمين وبين عقيدتهم الصافية الخالصة – من ناحية – ويشوشون عليها لتعكير صفائها من ناحية أخرى  فوقع المسلمون قروناً ماضية فى هذا الخط العجيب وهذا الانفصام النكد  وبخاصة فى هذه الأيام التى تذبح فيها العقيدة على أيدى أبنائها الذين ابعدوا كثيراً عن حقيقتها ومقتضياتها ومن مظاهر هذا الخلط العجيب والأنفصام النكد أننا نرى صنفاً من الناس يردد كلمة التوحيد وهو لا يفهم لها معنى ولا يعرف لها مضموناً ولا يقف لها على مقتضى !
ونرى صنفاً آخر من المسلمين يردد كلمة التوحيد وقد انطلق حراً طليقاً يختار لنفسه من المناهج والأوضاع والنظم والقوانين الوضعية ما يشاء ويختار !
ونرى صنفاً ثالثاً يردد كلمة التوحيد وقد قسم حياته إلى قسمين:
قسم يتعلق بأمور العبادات  وهنا يسمح لكلمة التوحيد أن تفك من أسرها وأن تخرج من سجنها !
وقسم يتعلق بأمور الحياة وشئونها ولا وجود هنا لكلمة التوحيد !
فما علاقة التوحيد والسياسة ؟!
وما دخل العقيدة بنظام الحكم ؟!
وما دخل العقيدة بالنظام الاقتصادى والاجتماعى ؟!
والإسلام أسمى من أن نخرجه من بيوت العبادة لنزج به فى سياسة الإعلام أو التعليم أو السياحة !!!
ونرى صنفاً رابعاً يردد كلمة التوحيد وقد ترك الصلاة وضيع الزكاة ، وتفنن فى أكل أموال الناس بالباطل وأكل الربا ، وشرب الخمر ، ومارس الزنا ، بل ومنهم من يرددها وهو يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف !!
تناقض رهيب  وانفصام مخوف  يزيد القلب التقى كمداً وحزناً وحسرة على ما وصل إليه حال كثير من الناس من سوء فهم لقضية العقيدة ، والله جل وعلا يقول: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة( )
"أى بمجموع حياتكم ، بحيث لا يشذ عن سلطانه شئ ولا يند عن دائرة نفوذه جزء من أجزائها ، فلا يكن من شأنكم فى ناحية من نواحى حياتكم أن تتجردوا من عبوديته الشاملة فتحسبوا أنفسكم أحراراً فى شؤونكم تختارون من المناهج والأوضاع ما تريدون أو تتبعون من النظم والقوانين الوضعية المستحدثة ما تحبون"( )
ومن خلال هذا الواقع المر الأليم نرى الحاجة ماسة وملحة لتعليم المسلمين العقيدة الصحيحة الصافية صفاء السماء التى جاء بها النبى  وظل يربى عليها أصحابه لا فى مكة وحدها بل فى المدينة كذلك  لأن قضية العقيدة لا تذكر لفترة من الزمن ثم تترك للحديث عن قضايا أخرى  كلا بل إن قضية العقيدة أصل ينتقل "معه" إلى غيره فهى قضية دائمة دوام البشر
إذن  فليست قضية العقيدة أو التوحيد مجرد كلمة – فقط – ترددها الألسنة دون أن تستقر فى القلوب أو تخبر عن نفسها فى دنيا الواقع !!
ومن أبسط الأمثلة على ذلك  أنه لو أصيب إنسان بصداع شديد فى رأسه ووصف له الطبيب دواء "الأسبرين" مثلاً  فهل يعقل أن يذهب المريض إلى بيته ويستلقى على فراشه مكتفياً بأن يقول: "أسبرين  أسبرين" ولا يعقل إطلاقاً أن تقف كل جاهليات الأرض موقف الصد والأعراض والعناد والحرب لقضية التوحيد لمجرد أنها كلمة!!
فالتوحيد الذى يجب علينا أن نبدأ من جديد لدعوة الناس إليه دين شامل ومنهج حياة كامل
فهو – أى التوحيد – يتضمن من الكفر بالطاغوت والآلهية والأرباب والأنداد  ومن توحيد الربوبية والآلهية والأسماء والصفات  ومن الولاء والبراء  ومن كمال الذل وكمال الحب لله  ومن تجريد العبادة إلى الله تعالى وحده ما يجعل العبد موحداً حقاً
نعم  هذا كله تتضمنه كلمة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)
فهى نفى وإثبات:
نفى للآلهة التى تعبد من دون الله وصرف العبادة فى جميع صورها الظاهرة والباطنة إلى من يستحق العبادة جل وعلا  ومن صرف شيئاً منها لغير الله فقد وقع فى الشرك  واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً
وهى – أى كلمة التوحيد – نفى للأنداد  يقول عز وجل : فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ، واتخاذ الند على قسمين الأول: أن يجعل الند شريكاً لله فى أنواع العبادة وهذا شرك أكبر
والثانى: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت وقد ثبت فى الحديث أن رجلاً قال لرسول الله : ما شاء الله وشئت فقال الرسول: "أجعلتنى لله نداً بل قل ما شاء الله وحده"( )
وفى الحديث الصحيح أنه  قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار( )
وهى نفى للأرباب التى عبدت من دون الله جل وعلا من صنف من الناس قال الله عز وجل عنه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله( )
يقول العلامة الألوسى – رحمه الله تعالى – فى تفسير هذه الآية : "الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم فى أوامرهم ونواهيهم"
بل وفسرها النبى  بنفسه لعدى بن حاتم  لما جاء مسلماً فقرأ النبى  هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله قال: عدى فقلت: إنهم لم يعبدوهم  فقال : عليه الصلاة والسلام : "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم"( )
وهى – أى كلمة التوحيد – كفر بالطواغيت  والطاغوت : كل ما عبد من دون الله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم
وهى – أى كلمة التوحيد – إثبات لتوحيد الربوبية ، وهو إفراد الله تعالى وحده بالخلق والأمر والملك والرزق والتصريف والتدبير ألا له الخلق والأمر( ) "وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أول دليل على أن مدبره إله واحد وملك واحد ، ورب واحد، لا إله للخلق غيره ولا رب لهم سواه" ( )
وهى إثبات لتوحيد الألوهية وهو إفراد الله تبارك وتعالى وحده بجميع أنواع العبادة من التأله والمحبة والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والتفويض والتسليم والاستقامة إلخ وهذا الذى بعثت به الرسل ولأجله انزلت الكتب وخلقت الجنة والنار فالدين كله هو عبادة الله وطاعته وحده والخضوع له وحده والمحبة له وحده ، جل وعلا وهى الغاية التى خلق الله الخلق من أجلها وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( )
وهى – أى كلمة التوحيد – إثبات لتوحيد الأسماء والصفات وهى أفراد الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا التى أثبتها الله تعالى لنفسه وأثبتها له عبده ورسوله محمد والإيمان بها على الوجه الذى أراد الله ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون( )
وهذا الباب من أعظم أبواب التوحيد وأشرفها
وهى – أى كلمة التوحيد – ولاء وبراء
هذا المفهوم الضخم الذى غاب فى حس المسلمين مع غياب فهمهم الصحيح لحقيقة التوحيد – إلا من رحم ربك – مع أنه لا يمكن بحال أن تتحقق كلمة التوحيد فى الأرض إلا بتحقيق الولاء لله ولرسوله والمؤمنين والبراءة من الشرك والمشركين يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين( )
"إن المفاضلة واجبة بين كل مسلم وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام إن المسلم مأمور بأن لا يخلط بين منهج الله وبين أى منهج آخر وضعى  لا فى تصوره الاعتقادى ولا فى نظامه الاجتماعى ولا فى كل شأن من شئون حياته  وإن الفوارق بين الإسلام والكفر لا يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة أو المصانعة أو المداهية وإن الذين يحاولون تمييع هذه المفاضلة الحاسمة باسم التسامح أو التقريب بيــن الأديان أو التعايـش السلمى يخطئون فى فهمهم للدين الإسلامى وفهمهم لمعنى التسامح الذى يقره الإسلام"( )
ورحمه الله ابن القيم حيث يقول فى نونيته( ) :




وهى – أى كلمة التوحيد – إثبات لحاكمية الله وحده
فمع غياب المفهوم الصحيح الشامل لقضية التوحيد ، غاب هذا المبدأ الكبير الذى هو من أخص خصائص الألوهية ونحى المسلمون – إلا من رحم ربك – شريعة الله جل وعلا وأحلوا محلها القوانين الوضعية الفاجرة
استبدلوا بالعبير بعرا  وبالثريا ثرى  وبالرحيق المختوم حريقا !!
مثلهم كمثل الجعل يتأذى من رائحة المسك والورد والفواح ويسعد بل ويحيا برائحة القذر فى المستراح !!
وظن كثير من السذج والبلهاء والمخدوعين أن شرع البشر من ملاحدة وزنادقة وعلمانيين وشيوعين وديمقراطيين وغيرهم ممن تتحكم فيهم الأهواء وتسيطر عليهم الشبهات والشهوات ، ظنوا أن تشريع هؤلاء هو قارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج العاتية والظلمات الحالكة التى يترنح الناس فيها كترنح من يتخبطه الشيطان من المس  وخاب الجميع وخسروا !!
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون( )
ومن ذا الذى يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس ويحكم فيهم خيراً مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم ؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدى هذا الإدعاء العريض ؟ أيستطيع أن يقول : إنه أعلم بالناس من خالق الناس ؟
أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس ؟
أيستطيع أن يقول: إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس ؟
أيستطيع أن يقول: إن الله سبحانه وهو يشرع شريعته الأخيرة ويرسل رسوله الأخير ويجعل رسوله خاتم النبيين ، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات ، ويجعل شريعته شريعة الأبد ، كان سبحانه يجهل أن أحوالاً ستطرأ وأن حاجات ستجد ، وأن ملابسات ستقع، فلم يحسب حسابها فى شريعته أنها كانت خافية عليه – سبحانه – حتى انكشفت للناس فى آخر الزمان" ( ) ؟!
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون( ) فالأصل الذى يجب على البشرية أن ترجع وتفئ إليه هو دين الله وحكم الله منهجه للحياة  فإما أن نحتكم إلى الله وإما أن نحتكم إلى الطاغوت وقد أمرنا الله أن نكفر به !!
ويبقى بعد هذا كله الركن الثانى لكلمة التوحيد وهو شهادة أن محمداً رسول الله  فهى الأخرى ليست مجرد كلمات نرددها ونتغنى بها وننسج لها القصائد والمدائح والأشعار ونقيم لها الحفلات فى المناسبات والأعياد ثم ينتهى الأمر عند هذا الحد أيضاً ولا تتحول هذه الشهادة الكريمة فى حياتنا إلى واقع وسلوك  بل وتجاوز الأمر ذلك فظهر علينا ممن يتكلمون بألسنتنا ويلبسون زينا – من بنى جلدتنا – من يتطاول على سنة إمام الهدى ومصباح الدجى – بأبى هو وأمى   –  ووالله لا يتم إيمان إلا بالإنقياد الكامل والأذعان المطلق لرسول الله : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيها شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما( ) نعم  إنه شرط الإسلام وحدَّ الإيمان ، وتقتضى هذه الشهادة الكريمة ، تصديقه   فى كل ما أخبر ، وطاعته فى كل ما أمر ، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر ، ومحبته صادقة متمثلة فى اتباعه واقتفاء أثره والسير على طريقه دون غلو أو إطراء  قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله( )
ومن كمال العبودية لله والمحبة لرسول الله  أن نميز بين حقوق الله تعالى التى لا يجوز بحال صرفها لغير الله وبين حقوق رسول الله 
وكل هذه الجزئيات تحتاج إلى تفصيل وتوضيح ليس هذا محله( )
وبعد  فهذا هو التوحيد الذى جاء به محمد  هذا هو التوحيد الذى من أجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار  هذا هو التوحيد الذى عليه أسست الملة، ونصبت القبلة ، وجردت سيوف الجهاد  هذا هو التوحيد الذى لا سبيل إلى السعادة فى الدنيا والفوز برضوان الله جل وعلا فى الآخرة إلا به
ألم أقل لكم إن التوحيد الذى نريد أن ندعو إليه من جديد دين كامل ومنهج شامل يظلل كل نواحى الحياة حتى فى أدق أمورها وأخص خصائصها ؟!
وبعد هذا الفهم المتكامل لقضية العقيدة والتوحيد – وبعده فقط – ندرك أهمية "نقطة البدء" وخطورة "لبنة الأساس" وعليه فأى بناء يقام بغير هذا البداية ودون هذه اللبنة فإنه بناء خائر وسينهار حتماً يوماً ما وإن طال زمنه !!
ومن هذا المنطلق – فقط – ندرك أن من الخطأ البين أن تكون نقطة البدء على طريق دعوتنا الطويل  ولبنة الأساس الأولى فى هذا البناء الضخم الكبير  هى الصدام مع السلطة
هذا خطأ كبير فادح أسطره بدمى وقلبى وعقلى وروحى لأحذر منه زهور الأمة المتفتحة  وأمل الأمة المنشود  ومستقبل الأمة المشرق  شباب الصحوة المباركة التى تجرى محبة الإسلام فى دمائهم وعروقهم الذكية  وتملأ عليهم وجدانهم وكيانهم ويتمنون بصدق أن لو بذلوا هذه الدماء لتروى شجرة الإسلام وتعلو راية التوحيد وتقوم دولة الإيمان
وأنقل لكم كلاماً رائعاً للرجل الذى قدم قلمه وفكره وعقله ودمه للإسلام لتقوم دولته فى الأرض من جديد مرة أخرى إنه صاحب الظلال – رحمه الله تعالى – حيث يقول : "إنه ابتداءً يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها ، والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً ، ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقى قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة ، فالتوسع الأفقى قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية ولا تراعى طبيعة المنهج الحركى الربانى الذى سارت عليه الجماعة الأولى على أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يتكفل بهذا لدعوته فحيثما أراد لها حركة صحيحة عرض طلائعها للمحنة الطويلة وأبطأ عليهم النصر ، وقللهم ، وبطأ الناس عليهم حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا وتهيأوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمنية ثم ينقل خطاهم بعد ذلك بيده سبحانه والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"( )
ثم يقول الشيخ سيد قطب – رحمه الله تعالى – فى شهادته التى هزت الوجدان : "وتفكيرنا الذى انتهينا إليه من ناحية منهج الحركة وضرورة بدئه من شرح حقيقة العقيدة قبل النظام والشريعة ومن التكوين الفردى قبل التنظيم الجماعى ، ومن عدم محاولة فرض النظام الإسلامى عن طريق إحداث إنقلاب من القمة وبالذات عدم إضاعة الجهد بالتدخل فى الأحداث السياسية الحالية الجارية"( )
ويقول الشيخ أبو الأعلى المودودى – رحمه الله تعالى – فى كتابه القيم "منهاج الانقلاب الإسلامى" : "فالدولة لا تتكون إلا وفق ما يتهيأ لها من العوامل الفكرية والخلقية والمدنية فى المجتمع كما قلت فكما لا يمكن أن تكون الشجرة منذ أول أمرها إلى أن يتم نماؤها شجرة كمثرى أو ليمون مثلاً ثم إذا آن أوان إثمارها انقلبت شجرة تفاح أو رمان ! كذلك الدولة الإسلامية فإنها لا تظهر دولة إسلامية بطريقة خارقة للعادة بل لابد لإيجادها وتحقيقها من أن تظهر أولاً حركة شاملة مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها  وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام  وقوائم طبيعية يقوم بأمرها رجال يظهرون استعدادهم التام للاصطباغ بهذه الصبغة المخصوصة من الإنسانية ويسعون لنشر العقلية الإسلامية ويبذلون جهودهم فى بث روح الإسلام الخلقية فى المجتمع  هذا هو الطريق للإنقلاب الإسلامى والسبيل الفطرية لتحقيق فكرة الدولة الإسلامية"( )
ثم يقول الشيخ المودودى – رحمه الله – ذلك صراحة فى كتابه القيم: "واجب الشباب المسلم اليوم" يقول : "أيها الأخوة الكرام أود أن أوجه إليكم نصيحة الختام وهى أن لا تقوموا بعمل جمعيات سرية لتحقيق الأهداف ، وأن تتحاشوا استخدام العنف والسلاح لتغيير الأوضاع لأن هذا الطريق أيضاً نوع من الاستعجال الذى لا يجدى بشئ ومحاولة للوصول إلى الغاية بأقصر طريق ، إن هذا الطريق أسوأ عاقبة وأكثر ضرراً من كل صورة أخرى وإن الانقلاب الصحيح السليم قد حصل فى الماضى وسيحصل كذلك فى المستقبل بعمل علنى واضح وضوح الشمس فى رابعة النهار فعليكم أن تنشروا دعوتكم علناً وتقوموا بإصلاح قلوب الناس وعقولهم بأوسع نطاق وتسخروا الناس لغاياتكم المثلى بسلاح من الخلق العذب والشمائل الكريمة والسلوك الحسن والحكمة البالغة  ومثل هذا الانقلاب لا يمكن لأى قوة معادية أن تقف فى وجهه وأقول إن هذه الأمة لا يصلح أخرها إلا بما صلح به أولها أما إذا استعجلتم الأمر وقمتم بعمل الانقلاب بوسائل العنف ثم نجحتم فى هذا الشأن إلى حدٍ ما فسيكون مثله كمثل الهواء الذى دخل من الباب ليخرج من النافذة"( )
ومن الخطأ البين كذلك أن تكون نقطة البدء عن طريق دعوتنا الطويل  ولبنة الأساس الأولى فى هذا البناء الضخم الكبير  هى التوقف لإصدار الأحكام على الناس بالإسلام أو الكفر  وهذه مزلة كبيرة خشى الخوض فيها علماء الأمة وفقهاؤها  وحكمنا عليهم – أى على الناس – ليس هو الذى سيدخلهم الجنة أو النار ، فليس هذا من شأن العبيد ولكنه من شأن العزيز الحميد جل وعلا فهو وحده المتصرف فى شأنهم وشأن الكون كله يدخل من يشاء فى رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليما( )
وهذا هو شيخ الإسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصرة الدين ، الذى أضحك الله به من الدين ما كان عابسا وأحيا به من السنة ما كان دارسا ، ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يقول فى مجموعه المبارك: "إنى من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين( ) إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليهم الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى ، وإنى أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها وذلك يعم الخطأ فى المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية  وما زال السلف يتنازعون فى كثير من المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية  وكنت أبين أن ما نقل عن السلف والأئمة من "إطلاق" القول بتكفير من يقول كذا وكذا فهو أيضاً حق ، لكن يجب التفريق بين الاطلاق والتعيين وهذه أول مسئلة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهى مسئلة "الوعيد" فإن نصوص القرآن فى الوعيد مطلقة كقوله: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية وكذلك سائر ما ورد : من فعل كذا فله كذا فإن هذه مطلقة عامة  وهى بمنزلة قول من قال من السلف من قال كذا : فهو كذا  ثم الشخص المعين يلتغى حكم الوعيد فيه : بتوبة أو حسنات ماحية ، أو مصائب مكفرة أو شفاعة مقبولة والتكفير هو من الوعيد  فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول ، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة  ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة  وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده ، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً  وكنت دائماً – وما زال الكلام لشيخ الإسلام – أذكر الحديث الذى فى الصحيحين فى الرجل الذى قال: "إذا أنا مت فأحرقونى ثم اسحقونى ثم ذرونى فى اليم فوالله لإن قدر الله علىَّ ليعذبنى عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين ففعلوا به ذلك فقال الله ما حملك على ما فعلت قال خشيتك : فغفر له"
فهذا رجل شك فى قدرة الله وفى إعادته إذا ذرى به اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك وكان مؤمناً يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك
والمتأول من أهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول  أولى بالمغفرة من مثل هذا"( ) انتهى كلام شيخ الإسلام وحسنة الأيام عليه من الله الرحمة والرضوان وجمعنا به مع سيد النبيين فى الفردوس الأعلى – أعلى الجنان – بمنه وكرمه إنه رحيم رحمان  ومع هذا كله فإننا لا نملك أن نقيم حد الردة على من ارتد منهم فعلاً عن الإسلام  فنحن دعاة  واجبنا أن نؤدى الأمانة الكبيرة والتبعة الثقيلة التى حملنا إياها بالبلاغ والبيان والبشارة والنذارة وأن نبين للناس ما غاب عنهم من حقائق وأصول هذا الدين فى غربة الإسلام الثانية والله جل وعلا يخاطب نبيه  بقوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب
وبعد ذلك ، فإنه يجب علينا جميعاً أن نتحرك بسرعة فى غاية الرحمة والحكمة والشفقة والتواضع لنعلم الناس حقيقة التوحيد الذى أراده الله من خلقه وجاء به رسوله محمد  ولا نقف مكتوفى الأيدى ونكتفى – فقط – بإصدار الأحكام عليكم بالكفر أو الإيمان
ومع ذلك فلا ينبغى أن نظن أن الطريق هين لين مفروش بالزهور والورود والرياحين  كلا  ولكنه طريق طويل طويل  حافل بالعقبات والأشواك ومن الحكمة قبل أن نخطوا أن نتعرف على هذه العقبات لنتزود لها بالزاد الذى يناسبها حتى لا ننزلق فى أى منعطف من المنعطفات أو يتوقف بنا المسير عند اصطدامنا بعقبة من العقبات  وهى كثيرة كثيرة  فلنتعرف عليها فى الخاطرة التالية


الخــاطرة الخامســــة
عقبات على طريق الدعوة

إن طريق الدعوة  طريق الأنبياء والمرسلين  وطريق العلماء العاملين ، والدعاة الصادقين  ليس طريقاً هيناً ليناً  ولا مفروشاً بالزهور والورود والرياحين كلا إنه طريق وعر شاق طويل  ملئ بالعقبات  مخضب بالدماء محفوف بالابتلاء
ومن الحكمة قبل أن نواصل السير على هذا الطريق  أن نكون على بصيرة تامة بوعورته ومشقته وعقباته الكثيرة  لنعد له الزاد الحقيقى الذى يناسبه ، حتى لا ننزلق فى أى منعطف من المنعطفات  أو نصطدم بعقبة من العقبات التى ستعترض طريقنا، ولا أدرى بأيها أبدأ ، لاسيما وقد اجتمعت !!
وأهم هذه العقبات – فى نظرى – ما يلى:
أولاً : عقبة أعداء الإسلام فى الخارج والداخل
ثانياً : الهزيمة النفسية أمام تحديات الغزو الفكرى
ثالثاً : كثرة أهل الباطل وظهورهم ، وقلة أهل الحق وابتلاؤهم
رابعاً : حب الدنيا وكراهية الموت
خامساً : اتباع الهوى
ولا شك أن الحديث عن هذه العقبات  طويل بطول المعركة !! ولكننى سأحاول اختصاره فى هذه السطور ، ولنبدأ بالحديث عن العقبة الأولى
العقبة الأولى
أعداء الإسلام فى الخارج والداخل
وهى من أخطر العقبات التى ستعترضنا – وبشدة – على طول الطريق  فإن الإسلام منذ أن بزغ فجره وأشرق نوره ، فى أرض الجزيرة ، وهو مستهدف من قبل أعدائه  الذين لا يتفقون على شئ ، قدر اتفاقهم على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين ! ولم يدعو سبيلاً إلا وسلكوه للوصول إلى أهدافهم الخبيثة  ومن أهم هذه السبل ما يلى:
أولاً: القضاء على الحكم الإسلامى متمثلاً فى الخلافة :
وأسجل – هنا – بكل حسرة ومرارة أنهم قد نجحوا بالفعل فى القضاء على الخلافة الإسلامية وفصل الدين عن الدولة فى أوائل هذا القرن على يد العميل الخائن لدينه ولأمته – كمال أتاتورك – فى معاهدة الذل والعار – معاهدة لوزان – عام 1922م
وكانت بنود هذه المعاهدة التى اشترطها ووضعها "كرزون" وزير خارجية انجلترا هى كما يلى:
أولاً: إلغاء الخلافة "الإسلامية" إلغاءً تاماً وطرد الخليفة – السلطان عبد الحميد ، رحمه الله تعالى – خارج الحدود ومصادرة أمواله
ثانياً: إعلان علمانية الدولة  أى "فصل الدين عن الدولة"
ثالثاً: أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية
رابعاً: أن يستبدل الدستور العثمانى القائم على الإسلام بدستور مدنى وضعى بحت
ووقع المعاهدة عن دولة الخلافة المهزومة العميل الخائن "عصمت إينونو" الذى أعلن هو وأستاذه فى الخيانة – أتاتورك – قولتهما الخطيرة: "إننا سنطيح برأس كل خليفة يحاول أن يدخل أنفه فى أمور الدولة أو يفكر فى ذلك"
وواصل المجرم – أتاتورك – فصول جريمته بدقة وإحكام ففى عام 1925م أصدر قانوناً يقضى بإلغاء الزى الإسلامى واستبداله بالزى الغربى ووجوب لبس القبعة التى كانت رمزاً أجنبياً واستبدال تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله) بخلع القبعة أو بالانحناء كما يفعل أربابه الغربيون !!
ولم يكتف بهذا المسخ الماحق للهوية الإسلامية ، ففى عام 1928م أصدر قانوناً أخر بإلغاء تدريس العلوم الشرعية وأن يرفع الآذان باللغة التركية – وليس بالعربية !! – وتسوية المرأة بالرجل فى الميراث ، وإلغاء نظام تعدد الزوجات ، واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية وألغى يوم الجمعة كعطلة رسمية وجعل بدلاً منه "يوم الأحد" !! ولم يترك فرضاً من فروض الولاء والطاعة لأسياده وأربابه الغربيين إلا وقدمه راكعاً ساجداً ذليلاً مهاناً – لا أحسن الله إليه – وهكذا رُفعت مظلة الخلافة وتمزقت الأمة وتشتت شملها – ولا زال – ولا حول ولا قوة إلا بالله !!
ثانياً: القضاء على القرآن الكريم:
لأنه مصدر عز الأمة وشرفها  وهو الذى حول المسلمين – فى أرض الجزيرة- من رعاة للغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم !! يوم أن كان – كتاب الله جل وعلا- كتاب حكم وتشريع لا كتاب ثقافة وتسلية !! وتمائم وأحجبة !!
لذا فلم يدخر أعداؤنا وسعاً فى القضاء عليه ، لا على آياته أو كلماته أو حروفه كلا ، فالذى تولى حفظه هو الله جل وعلا  قال سبحانه : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وما حفظه الله تعالى لا يمكن لأحد على وجه الأرض أن يضيعه البتة  ولكن بالحيلولة بينه وبين واقع المسلمين وتحويله إلى أحجبة وتمائم أو إلى مجرد كتاب يقرأ – فقط – لا إلى كتاب حكم وتشريع يجب على الأمة أن تنفذ أوامره  أمراً أمراً ، وحكماً حكماً ، وتكليفاً تكليفاً ، وأن تبتعد عن نواهيه ، نهيا نهياً ، وتحذيراً تحذيراً، وأن تقف عند حدوده حداً حداً
وها هو المنصر الصليبى الحقود "كاتلى" يقول: "يجب أن نستخدم القرآن – وهو أمضى سلاح فى الإسلام – ضد الإسلام نفسه حتى نقضى عليه تماماً ، يجب أن نبين للمسلمين أن الصحيح فى القرآن ليس جديداً وأن الجديد ليس صحيحاً"( )
ويقول المنصر الصليبى "وليم جيفورد بالكراف" : "متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب ، يمكننا حينئذ أن نرى العربى يتدرج فى طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمد وكتابه"( )
بل وأعلنها "جلاد ستون" رئيس وزراء انجلترا – سابقاً – صريحة فقال: "ما دام هذا القرآن موجوداً فى أيدى المسلمين فلن تستطيع أوربة السيطرة على الشرق ولا أن تكون هى نفسها فى أمان"( )
ويقول نفسه فى إحدى خطبه : "إن هناك أربع عقبات أمامنا للقضاء على الإسلام وهى: المصحف والكعبة والأزهر وصلاة الجمعة"( )
ولكن  والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ثالثاً : تشويه وتحريف التاريخ والفكر الإسلامى:
لفصل المسلم عن تاريخه المجيد ، وماضيه المشرق ولتشكيكه فى انتمائه ، ولمسخ هويته ، ولزعزعة عقيدته  وللوصول إلى ذلك نشطوا نشاطاً كبيراً جداً فى إحياء الأفكار الهدامة التى تشوه صفحة التاريخ والفكر الإسلامى الناصعة البياض
ومن هذه الأفكار الخطيرة التى روجوا لإنتشارها ما يلى:
- إحياء الفكر الوثنى الإلحادى
- إحياء الفكر الفلسفى فى جانب التوحيد والدعوة إلى وحدة الوجود والحلول والاتحاد والإشراق وغيرها
- إحياء الفكر الشعوبى الباطنى الخبيث وتجديد التفسير للقرآن الكريم من خلاله
- إحياء فكر القرامطة
- إحياء الفكر المعتزلى
- تزييف كتابة التاريخ الإسلامى
وغيرها من مؤامرات التشويه والتشكيك لإخراج المسلم عن دينه فى النهاية من حيث يدرى أو لا يدرى ‍‍ فهذا هو هدفهم الكبير الذى عبر عنه الخبيث زويمر "المنصر الحقود" الذى يقول: "إن للتبشير بالنسبة للحضارة الغربية مزيتين : مزية هدم ، ومزية بناء
أما الهدم فنعنى به: انتزاع المسلم من دينه ولو بدفعه إلى الإلحاد ، وأما البناء فنعنى به: تنصير المسلم – إن أمكن – ليقف مع الحضارة ضد قومه"( )
رابعاً: القضاء على وحدة المسلمين:
وتمزيق صفهم ، وتفتيت دولهم ، وبث روح التناحر والتنازع على الحدود ، وإحياء روح العنصرية الجاهلية البغيضة لا بين الشعوب الإسلامية وبعضها – فحسب- بل وبين أبناء الشعب الواحد ليظلوا متفرقين ضعفاء لا وزن لهم ولا تأثير  وما نراه اليوم خير شاهد على ما نقول ‍‍‍‍!!
ويحسد هذه المعانى المنصر الصليبى "لورانس براون" فيقول: "إذا اتحد المسلمون فى إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير" ( )
خامساً: الدعوة إلى الإباحية المطلقة لهدم الأسرة المسلمة وتدمير الأخلاق:
وفى إحدى البروتوكولات الصهيونية هذا السم الزعاف: "يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق فى كل مكان ، فتسهل سيطرتنا إن "فرويد" منا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية فى ضوء الشمس لكى لا يبقى فى نظر الشباب شئ مقدس ، ويصبح همه الأكبر وإرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه"
وأخيراً – وليس بآخر – فإن من مخططاتهم الخبيثة وأهدافهم الكبيرة القضاء على الصحوة الإسلامية التى بدأت تتنزل فى كل بقاع العالم كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى  ولكن ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
هذا كله – بإيجاز شديد – عن العقبة الأولى التى تزداد خطورة بوجود عملاء لهؤلاء الأعداء بداخل الصف المسلم يتكلمون بألسنتنا ويلبسون ثوب الإسلام ، ليضللوا أبناءه بأفكارهم الملحدة ودعاويهم الباطلة
وبعد  فيا أيها الدعاة الكرام  هذه هى العقبة الأولى التى ستعترض مسيرنا المبارك على طريق الدعوة الطويل الشاق  ولا شك أن تشخيص الداء هو نصف الدواء وهذا يحتاج منا زاداً عظيماً لمواصلة السير بإذن الله وهذا هو ما سنوضحه فى الخواطر المقبلة بإذن الله تعالى

العقبة الثانية
الهزيمة النفسية أمام تحديات الغزو الفكرى
فلقد استيقظ الأوروبيون من رقادهم الطويل وسباتهم العميق مذهولين من هذا المد الإسلامى الهائل الذى غمر الكون كالشمس وبدأ ينتشر فى أرجاء الدنيا كأنه الليل والنهار
نعم  فلقد وطئت أقدام المسلمين أرض أروبة ، وها هى جيوشهم العملاقة تدخل إيطاليا وتفتح أسبانيا ، وتواصل الفتح المبارك فتصل إلى حدود الصين شرقاً وإلى بلاد الروس شمالاً  حتى قام الخليفة العباسى هارون الرشيد يخاطب السحابة فى كبد السماء ويقــول لها: أيتها السحابـة أمطرى حيث شئت فإن خراجك سيحمل إلينا إن شاء الله
وهنا انتفض الأوروبيون وأعوانهم انتفاضة رجل واحد للقضاء على هذا المارد العملاق  فتوالت هجماتهم وحملاتهم الصليبية المتكررة التى لم تزد المسلمين إلا عزماً على النصر أو الشهادة فى سبيل الله  وفشل أسلوب الحديد والنار  ومن ثم فكر أعداء الإسلام فى أسلوب جديد لا يقل ضراوة وخطراً من الغزو العسكرى  فحل محله الغزو الفكرى الذى نجح فى أن يوجد جيلاً فرخ فى مدارس أعداء الدين ، وشرب من منابعهم وحج إلى قبلتهم !! ثم عاد ليسبح بحمد أوربة ويهتف باسم الغرب  ويؤدى دوره بدقة وأمانة لمسخ هوية الجيل وزرع بذور التشكيك والإلحاد والتحرر ، ونجحوا إلى حد بعيد فى أن يخرجوا هذا الجيل من المستغربين الذين أغشى أبصارهم بريق الحضارة الغربية المادية المذهلة التى صادفت هزيمة نفسية مزرية فى كثير من القلوب ، فى وقت بدأ فيه المسلمون يتخلون عن إسلامهم وحضارتهم التى أشرق نورها ابتداءً على هذه الحضارات بأسرها  ونقل عبيد الغرب هذه الحضارة بكل ما فيها من حلو ومر وخير وشر على أنها وحدها – فقط – هى سر الحياة وأكسير السعادة ، وقارب النجاة وسط هذه الأمواج المتلاطمة والرياح الهوجاء التى يترنح فيها كثير من الناس كترنح الذى يتخبطه الشيطان من المس !
وهذه العقبة – بلا ريب – من أخطر العقبات التى ستواجهنا على طريق الدعوة  وإنكار وجودها ليس حلاً  كلا بل يجب أن نعترف ابتداءً بأنها تعصف بقلوب كثير من المسلمين ، لننطلق انطلاقة صحيحة للقضاء على هذه العقبة – الهزيمة النفسية أمام تحديات الغزو الفكرى – وذلك بغرس العقيدة الصحيحة الشاملة من كفر بالطواغيت والأنداد والأرباب والآلهة وصرف العبادة بجميع أجزائها لله جل وعلا وحده ، ومن ولاء وبراء  ولاء لله ولرسوله وللمؤمنين  وبراء من الشرك والمشركين ، ورد المسلم إلى هويته وانتمائه ليعتز بهذا الدين العظيم وليرفع رأسه وصوته بقولة فاروق الأمة – عمر بن الخطاب –  : "لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العز فى غيره أذلنا الله"  وأن يكون على يقين أن دولة الإسلام وإن مرضت واعتراها الركود إلى فترات طويلة فإنها لا تموت بإذن الله !! وبالعودة مرة أخرى إلى كل ميادين الحياة لتحويلها إلى واقع عملى حىّ يشهد للإسلام والمسلمين شهادة عملية وذلك بإعداد الكوادر المسلمة المتخصصة المتقنة فى كل مواقع العمل وميادين الإنتاج وليس هذا بغريب علينا ولا بمستحيل بل نحن أصل هذه الحضارة ولا ينكر ذلك إلا جاهل بالتاريخ، ولكن الغرب فى الوقت الذى تخلينا فيه نحن عن حضارتنا كان هو يسابق الزمن فى الأخذ عنها والاستفادة منها


العقبة الثالثة
كثرة أهل الباطل وظهورهم
وقلة أهل الحق وابتلاؤهم
وهذه – ولا شك – من أخطر العقبات وأشد الفتن التى تواجه أهل الحق  فهم يرون إقبال الدنيا على المبطلين ويرونهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتذلل لهم الصعاب ، وتيسر لهم الأسباب ، وتفتح لهم الأبواب  فى الوقت الذى يتعرض فيه أهل الحق للأذى والفتن والابتلاء حقاً إنها فتنة كبيرة قد تعصف بالقلوب القلقة !
ولا يثبت لها إلا أصحاب القلوب الحية السليمة العامرة بالإيمان واليقين  فالدعوة إلى الله جل وعلا أمانة عظيمة لابد لأهلها من إعداد خاص  وهذا الإعداد لا يتم أبداً إلا بالصبر الجميل على جميع الفتن والابتلاءات ، ولا يتم إلا بالاستعلاء على جميع الآلام ، والثقة المطلقة فى نصر الله جل وعلا لأهل الحق وإن كانوا قلة  فليست الكثرة دليلاً على الحق أبداً  لاسيما بعد إنقضاء القرون الثلاثة الأولى الفاضلة  بل ما ذكر الله الكثرة إلا وذمها وما ذكر القلة إلا ومدحها
فقال سبحانه : وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله( )
وقال سبحانه: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين( )
وقال سبحانه: فأبى أكثر الناس إلا كفورا( )
وقال تعالى: إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون( )
وقال تعالى: لقد جئناكم بالحق ولكن أكثرهم للحق كارهون( )
وقال سبحانه: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون( )
وقال تعالى: يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم كافرون( )
وقال سبحانه : إن فى ذلك لأية وما كان أكثرهم مؤمنين( )
قال تعالى: يلقون السمع وأكثرهم كاذبون( )
وذكر الله جل وعلا القلة ومدحها وأثنى عليها فقال سبحانه وتعالى : وقليل من عبادى الشكور( )
وقال جل شأنه : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم( )
وقال تعالى: وما آمن معه إلا قليل( )
وقال تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم( )
وقال سبحانه : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا( )
بل وفى الحديث الصحيح عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى قال: "عرضت علىّ الأمم فرأيت النبى ومعه الرهط والنبى ومعه الرجل والرجلان والنبى وليس معه أحد "( )
فلا ينبغى أن نغتر بالكثرة الهالكة وأن نحتقر القلة السالكة لطريق الحق والهدى، ورحم الله الحسن البصرى إذ يقول: "السُنة والله الذى لا إله إلا هو بين الغالى والجافى فاصبروا عليها رحمكم الله فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقى"
وهى الفئة الغالبة المنصورة بإذن الله ، قال تعالى: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله( )
وفى الحديث الصحيح عن معاوية    قال: سمعت النبى     يقول: "لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس"( )
وفى رواية لمسلم عن عقبة بن عامر  أنه  قال: "لا تزال عصابة من أمتى يقاتلون على الحق لا يضرهم من خالقهم حتى تأتيهم الساعة"
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من هذه القلة المؤمنة السالكة لطريق الحق والخير والهدى أنه ولى ذلك ومولاه


العقبة الرابعة
حب الدنيا وكراهية الموت
إنه الداء العضال الذى حذر منه النبى -  - أمته ولكن  وقع ما حذر منه رسول الله وأصبحنا نعيش عصراً طغت فيه الماديات والشهوات بصورة عارمة صرفت كثيراً من "المسلمين" عن الآخرة ، وراحوا يعمرون دنياهم وليتهم مع ذلك عمروا أخراهم بل امتلأت قلوبهم حرصاً وطمعاً وجبناً وتخلوا عن الدعوة إلى الله عز وجل وجبنوا عن الجهاد فى سبيل الله ، بل أصبحوا – هم – فى أمس الحاجة إلى دعوة بدلاً من أن يكونوا – هم – أصحاب الدعوة ورافعوا لوائها !!
والحق أنه من يوم أن تمكن هذا الداء فى الأمة – إلا من رحم ربك – ذلت الأمة وهانت على جميع الأمم بل وتجرأ عليها الذليل قبل العزيز والضعيف قبل القوى والقاصى قبل الدانى وقد بين ذلك – أوضح بيان – من لا ينطق عن الهوى فى حديث ثوبان   ، عن رسول الله  قال: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ، قال : بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة ، وليقذفن الله فى قلوبكم الوهن فقالوا: وما الوهن ، قال: حب الدنيا وكراهية الموت"( )
وهذه العقبة الخطيرة تحتاج من الدعاة جهداً كبراً وزاداً من الإخلاص والقدوة والصبر لا ينفد ولا ينتهى ، لتذكرة الناس بحقيقة الدنيا وإلا فكيف تدعو أناساً لبذل المال والمهج والأرواح فى سبيل الله تربع حب الدنيا على عروش قلوبهم وخلدوا إلى الأرض والوحل والطين فلابد – ابتداءً – أن نعرفهم حقيقة دنياهم وأنها ليست نهاية المطاف كلا بل إنها دار ممر والآخرة هى دار المقر يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هى دار القرار( )
وأنها مهما طالت فهى قصيرة ، ومهما عَظُمت فهى حقيرة ، لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر ، ولأن العمر مهما طال فلابد من دخول القبر وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كان يعلمون( )
ويبين النبى  حقارتها فى الحديث الصحيح يوم أن مَّر بالسوق والناس كنفتيه( )، فمر بجدى أسَك( ) مَيَّتٍ فتناوله فأخذ بإذنه ثم قال: "أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم ؟ فقالوا: ما نُحبُ أنه لنا بشئ وما نصنعُ به ؟! ثم قال: أتحبون أنه لكم ؟ قالوا: والله لو كان حيَّاً كان عيباً فيه لأنه أسكٌ فكيف وهو ميت فقال: فوالله للدنيا أهونُ على الله من هذا عليكم"( )
ورحم الله من قال:
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقُ والليالى متجر الإنسان والأيام سوق
ولتحويل هذه المعانى إلى واقع – من جديد – يحتاج إلى جهاد طويل وصبرٍ مرير


العقبة الخامسة
اتباع الهوى
وهذه هى القاصمة التى تصمُّ الآذان عن سماع الحق وتعمى الأبصار عن رؤية الدليل ولو كان صحيحاً ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله( ) ولخطورة هذا الداء العضال حذر الله جل وعلا منه نبياً كريماً من أنبيائه فقال سبحانه: يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ( )
نعم  فالهوى مِلك عَسُوف ، وسلطان ظالم ، دانت له القلوب وانقادت له الجوارح – إلا من رحم ربك –
ورحم الله من قال:



فهذه العقبة الخطيرة من أعظم التحديات التى تواجه الحركة الإسلامية فى هذه الظروف الحرجة ، وما يقع من فصائل العمل الإسلامى خير شاهد على ما نقول ، وهذا واقع مر لا يغفل عنه إلا من حبس نفسه فى مكتب مكيف أو جلس يُنَّظرُ للحركة من برج عاجى !!
فما زلنا نرى من أبناء الحركة الإسلامية من إذا تكلم عن جماعته التى ينتمى إليها ويدعو لها تغاضى عن جميع أخطائها ولو بُين له ذلك بالدليل من القرآن والسنة الصحيحة، وعارض نور الضُحى بنور السُّهى  وظل يبرر ويبرر حتى تصل أخيراً هذا الأخطاء – أحياناً – إلى محاسن !
فجماعته هى جماعة المسلمين ، وهى وحدها التى على الحق وما عداها من الجماعات فهى على الباطل( ) ، وكل ما تفعله جماعته فهو شرعى وكل ما يصدر عنها فهو الصواب ، وكل تاريخها أمجاد ، وكل رجالها وقاداتها ملائكة !!
فإن تحدث عن شيخه أو أميره فى الجماعة ، بالغ مبالغة كبيرة ، فشيخه هو الأوسع علماً ، والأقوى حُجة ، والأنصع دليلاً ، وإن قال شيخه قولاً صار حجةً لا ينبغى أن تناقش ، وإن أفتى شيخه فتوى صارت مُلزمةً لا ينبغى أن تُرد ، بل وقد يوالى ويعادى إخوانه عليها ، علماً بأن الله تعالى ما تعبدنا بقول فلان أو فلان من العلماء والأئمة  كلا، إنما تعبدنا بما جاء فى القرآن الكريم وما صح عن رسوله الأمين  وكل عالم أو إمام يؤخذ منه ويُرد عليه إلا المعصوم  فهو وحده الذى يؤخذ منه ولا يرد عليه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحىُ يوحى
ومن أجمل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – طيب الله ثراه – قوله: "وصاحبُ الهوى يُعميه الهوى ويصمٍّه ، فلا يستحضر مالله ورسوله فى ذلك ، ولا يطلبه ولا يرضاه بهواه ، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذى يرضى له ويغضب له أنه السَّنة ، وأنه الحق ، وهو الدين ، فإذا قدر أن الذى معه ، هو الحق المحض دين الإسلام ، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هى العليا ، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ، ليُعظم هو ويثنى عليه ، أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً ، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ، ولم يكن مجاهداً فى سبيل الله  فكيف إذا كان الذى يَّدعى الحق والسنة هو كنظيره ، ومعه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟! "( )
وهذه العقبة الخطيرة – اتباع الهوى – تحتاج من الدعاة إلى صبر طويل وإلى جهاد مرير لهوى النفس وشهواتها والاستعلاء على رغباتها طاعة لله وطمعاً فى رضاه وهذا لا يكون إلا بالتجرد والإخلاص والعمل ابتغاء مرضاة الله جل وعلا ، بغض النظر على لسان من أُعلنت كلمةُ الحق ما دامت كلمةُ الحق ستقال ، وبغض النظر عن من الذى سيرفع راية الإسلام ما دامت راية الإسلام ستظل مرفوعة خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء ، وبغض النظر عن مكاننا على طريق الدعوة  هل هو فى مكان الصدارة والقيادة أم هو فى المؤخرة بين صفوف الجنود ما دام عملنا على طول الطريق خالصاً لله جل وعلا  نسأل الله تعالى أن يجعل أعمالنا وأقوالنا موافقة لمرضاته إنه على كل شئ قدير
وبعد – فيا أيها الأحبة – هذه هى بعض العقبات التى ستعترض مسيرنا المبارك على طريق الدعوة الشاق الطويل ، فتعالوا بنا لنتزود بالزاد الذى ينير لنا هذا الطريق حتى لا نصطدم فى عقبة من هذه العقبات ، أو ننزلق فى أى منعطف من المنعطفات ، ودعونا ابتداءً نحدد لمن يكون هذا الزاد ؟!



الخــاطرة السادسة
لمن يكون الزاد ؟

نعم  فلأى صنف من الدعاة يكون هذا الزاد ؟ لأن الدعاة صنفان:
الأول: دعاة على أبواب جهنم
الثانى : دعاة على أبواب الجنة
وليس هذا التصنيف من عند أنفسنا ولكنه تصنيف من لا ينطق عن الهوى – بأبى هو وأمى – 
ففى الصحيحين من حديث حذيفة بن اليمان  قال: كان الناس يسألون رسول الله  عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا فى جاهلية وشرًّ ، فجاء الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شرًّ؟
قال : نعم
قلت: وهل بعد هذا الشر من خير ؟
قال : نعم وفيه دخن
قلت : وما دخنه ؟
قال: قوم يهدون بغير هديى ، تعرف منهم وتنُكر
قال: فهل بعد ذلك الخير من شر ؟
قال: نعم ، دُعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها
قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا
قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا
فقلت: فيما تأمرنى إن أدركنى ذلك ؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟
قال: "فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعضًّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"( ) ولمسلم نحوه ، وفيه قلتُ: "ما دخُنه؟ قال: قوم لا يستنون بسنتى وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين فى جثمان إنس ، قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك فاسمع واطع"( )
فزادنا الذى نقدمه فى الخواطر المقبلة إلى هذا الصنف المبارك إلى الدعاة إلى الله عز وجل ، الذين وصفهم النبى  فى الحديث الصحيح عن معاوية  قال: سمعت رسول الله  يقول : "لا تزال طائفة من أمتى قائمة بأمر الله ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتى أمر الله وهم ظاهرون على الناس"( )
إن هذا الزاد لهؤلاء الدعاة الربانيين الذين وقفوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم وأفعالهم
إنهم الدعاة الصادقون الذين يتحركون بدعوتهم خالصة إلى الله عز وجل ، من منطلق فهم صحيح لقول الله جل وعلا: قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين
فهم لا يدعون إلى قومية أو عصبية !
ولا يدعون إلى دنيا أو جاه !
ولا يدعون إلى مصلحة أو مغنم !
ولا يدعون لتملق أو هوى !
ولا يدعون لكرسى زائل أو منصب فان !
ولا يدعون لجماعة بعينها أو إمام بذاته !
بل جماعتهم هى جماعة المسلـمين ، ومنهجهم هو القرآن والسنــة ، وإمامهم هو إمام الهدى ومصباح الدُّجى محمد  ، وطريقهم هو طريق السلف رضوان الله عليهم
إنهم الناصحون المصلحون
إنهم الداعون إلى تحرير البشر من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد  ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام  ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة
إنهم المنادون بتخليص الأمة من عصابة الطواغيت التى استبدت بها فغيرت للأمة دينها وعكرت عليها دنياها وأخراها
إنهم قادة سفينة الإنقاذ بقوة وجدارة فى وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة العاتية
إنهم الشموع التى تحترق لتضئ للناس طريق الهدى والحق والنور
إنهم وعى الأمة المستنير
إنهم فكر الأمة الحر
إنهم قلب الأمة النابض
إنهم أطباء القلوب المريضة ، والنفوس الجريحة
إنهم قادة الأمة الذين تتجمع عليهم القلوب وتتآلف حولهم النفوس
ومن ثم توجه إليهم الحرب بمنتهى الشراسة والضراوة بمناسبة وبدون مناسبة!!
وها نحن نرى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة تشن عليهم حملة مسعورة شرسة !!
فهم الأصوليون  والوصوليون !!
وهم الفضوليون  والفوضويون !!
وهم دُعاة الشغب والفتنة !!
وهم المتنطعون  والمتشددون !!
وهم الإرهابيون  والمتطرفون !!
وهم السطحيون  والتافهون !!
وهم سبب تأخر الأمة  وسر تخلفها !!
وهُمْ  وهُمْ وهُمْ إلى أخر هذه التهم المعلبة والجاهزة التى تكال فى الليل والنهار !!
وها هى بعض التهم بنصها على صفحات الجرائد والمجالات لنسوقها لكل منصف وندع له الحكم !!
قال أحدهم على صفحات جريدة السياسة الكويتية( ) :
1- "الملتحون الجدد ضعاف الشخصية ، إذا جلسوا فى المجالس لا يتحدثون ولا يناقشون إنما ينظرون إليك كالمخدرين"
2- "بعض الملتحين تذكرك أشكالهم بالصحابة وبعضهم يذكرونك بكفار قريش"( )
3- "ولكنهم فى الحقيقة لا يعرفون شيئاً عن العالم لأن عقولهم محدودة الفهم حتى وإن كانوا مثقفين فثقافتهم محدودة"( )
4- "وخلت المساجد من الأحزاب الدينية فى صلاة العصر والفجر ، العصر لأنهم بعد أن يفترسوا الخراف ظهراً يشربون اللبن وينامون حتى غروب الشمس ، والفجر لأنهم يحيكون المؤامرات ليلاً ويسهرون حتى الصباح بعيداً عن أعين رجال الأمن"( )
5- "أحذركم من الذى يواظب على الصلوات الخمس وهو يغتسل من جنابة الزنا فى حمام المسجد"( )
ثم تجاوز الأمر حدًّه ، فلم ينل – فقط – الدعاة وطلبة العلم وأبناء الصحوة بل لقد نال الدين والصحابة أيضاً !! وإلى حضراتكم بعض النماذج
6- "الدين واللغة والتقاليد  ثلاثة أمراض اجتماعية"( )
7- "الفضيلة والكرامة تعترضان مسيرة النجاح" ( )
8- "عادل إمام مثل إبى ذر الغفارى  يمشى وحده ويموت وحده  ويبعث يوم القيامة وحده"( )
9- "عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس يُذكران فى طبقات المغنين، والسبب نشأتهما فى المدينة المنورة حيث يتعانق الفن والدين عناقاً حاراً"( )
10- "ماذا لو قالت امرأة : هذا الرجل صديقى"( )
11- "فى حياتنا اهتمامات لا داعى لها ويمكن أن نلغيها كمعامل الأبحاث الذرية مثلاً لأننا لن نستفيد منها شيئاً  لكن سوف نستفيد كثيراً لو أنشأنا مدرسة للرقص الشرقى تتخرج منه راقصة مثقفة متعلمة لجذب السياح"( )
وأعتقد أن فى هذا كفاية لكل من كان له قلب ينبض وعقل حر أبىَّ !! يتسأل مع نفسه
هل هذا فكر أم سبّ وقذف ؟!
هل هذا حوار أم إشعال للنار ؟!
هل هذه هى أمانة الكلمة ؟!
هل هذا هو دور الإعلام فى البناء والإصلاح ؟!
هل هذه هى إفرازات الصحف والمجلات ؟!
هل أصبح الدعاة إلى الله عز وجل والإسلاميون من ورائهم هم المشجب الذى تعلق عليه جميع الأخطاء من قهر سياسى ، وظلم اجتماعى ، وتحلل إعلامى وفساد خلقى، وتدهور علمى ، وانهيار اقتصادى ؟!
هل أصبح الدعاة إلى الله عز وجل هم سببُ تخلف الأمة ، وسُّر تأخرها و معول هدم حضارتها الحديثة ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل قد أفتى بوجوب العودة إلى علم الكىَّ وتحريم استخدام أشعة الليزر فى علم الطب والجراحة ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد أفتى بتحريم علم الجراحة وينادى بضرورة العودة إلى "الحجامة" فقط دون غيرها من أساليب علم الطب الحديثة؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد قام بشن حملة ضارية على هذه الصروح المعمارية الفخمة التى تناطح السحاب وأفتى بوجوب العودة إلى الصحراء لضرب الخيام والعيش فيها ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد أفتى بتحريم هذه "الحمامات" الفخمة بداخل البيوت ونادى بوجوب العودة لقضاء الحاجة فى الخلاء أو الصحراء ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد أفتى بتحريم التعامل – فى المجال الاقتصادى – بالأوراق المالية المعروفة ونادى بوجوب العودة إلى نظام المقايضة والمبادلة ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد أفتى بتحريم ركوب الطائرة أو السيارة ونادى بالعودة إلى ركوب الناقة والحمار ؟!
هل سمعتم أو قرأتم أن واحداً من هؤلاء الدعاة قد حرم الحصول على الصواريخ والطائرات والدبابات والمدافع والقنابل وأفتى بضرورة التسليح بالسيوف والرماح والخيول!
قليل من الإنصاف والعدل لنعرف الحقائق !!
قليل من التجرد لنعرف من هم الذين يعملون لصالح الأمة ومن هم الذين يقوضون بناءها !!
إننا نعلم أن هذه الحملة الشرسة الضارية على الدعاة إلى الله عز وجل لتشويه سمعتهم وتلطيخ صورتهم وتجريح دعوتهم والنيل منها للحيلولة بينهم – فى النهاية – وبين الأمة بصفة عامة والشباب المقبل على الله بصفة خاصة لأن أصحاب هذه الحملة يعلمون يقيناً أن هذا الشباب إن عاد مرة أخرى إلى العقيدة الصحيحة القويمة والتف حول قيادة مخلصة أمينة ، سيحول مجرى التاريخ مرة أخرى كما تحول أول مرة بالعقيدة الصحيحة والقيادة المخلصة الأمينة
ومن ثم لم يدخر أعداء الله – فى القديم والحديث – وسعاً فى تجريح القيادة دوماً لزعزعة الثقة فى القائد ولبذر بذور الشك والريبة بينه وبين أتباعه وتلاميذه !!
ولم ينج قائد صادق من هذه الحرب على طول التاريخ قديماً وحديثاً  وكيف وقد نالت هذه الحرب الشعواء القائد الصادق الأمين الطاهر الذى فاضت طهارته على جميع العالمين  محمد 
ولكن الأمر المخزى الذى يغيظ القلب ويؤلم النفس أن هذه الحرب تعلن على هؤلاء الدعاة القادة باسم الإسلام ومن أجل الإسلام للتلاعب بعقول العامة من المسلمين والتأثير على عواطفهم
وهذه شنشنة قديمة حديثة  فها هم زعماء الفتنة من أفراخ عبد الله بن سبأ اليهودى يحاصرون دار الخليفة الراشد الحيىَّ الكريم عثمان بن عفان  وأرضاه لتحطيم القيادة والقضاء عليها  باسم الإسلام  ومن أجل الإسلام !!!
ولكن لم يكن يتوقع أحد – أبداً – برغم خطورة الفتنة وبجاحة التمرد والعصيان ، أن يداً خائنة آثمة قد تمتد لاغتيال عثمان  
إنه شيخ كبير فى الثمانين من عمره
إنه من أوائل من وحدَّ الله فى مكة مع رسول الله
إنه خليفة رسول الله 
إنه زوج ابنتى رسول الله 
إنه المبشر بالجنة وهو فى الدنيا
إنه مجهز جيش العسرة
إنه صاحب بئر رومة
ولكنه الآن يحاصر ويمنع عنه كل شئ حتى الماء اشتراه بخالص ماله ليشرب منه المسلمون !!!
ولم يكتف المجرمون الآثمون بذلك ، لأنه هذا كله لا يطفئ نار الحقد والغل المشتعلة فى صدورهم !!
بل انقضوا على عثمان  كالذئاب المسعورة وتقدم أشقاهم "الغافقىُّ" فضربه بحديدة معه ، وضرب المصحف برجله !! فاستدار المصحف واستقر مرة أخرى بين يدى عثمان لتسيل عليه الدماء الزكية الطاهرة لتخالط آياتِ القرآن كما خالطت هذه الآياتُ الكريمة هذه الدماء فى أول الأمر فى مكة المكرمة !!
وانقضَّ "التجيبىُّ" عليه بالسيف فقتله
ولم تتوقف المأساة عند هذا الحدَّ المروع ، بل وثب الأحمق "عمرو بن الحُمق" على صدر عثمان  فطعنه تسع طعنات ثم قال:
ثلاث منها طعنتهن إياه الله تعالى!!!
وست لما كان فى صدرى عليه
ولو صدق الأحمق لقال: تسع لما كان فى صدرى عليه
ولو صدق زعماء الفتنة فى كل زمان ومكان لقالوا ما قاله "ابن الحمق" : لما فى صدورنا عليهم  ولكن للأسف الشديد فإن المبرر  لله  ومن أجل الإسلام !!!
وبعد  فإن هذه الفتن وتلك العقبات التى تعترض طريق الدعاة إلى الله عز وجل السائرين على طريق الدعوة من أبناء هذا الجيل المبارك ، تحتاج إلى زاد كبير فهيَّا لنتزود به لمواصلة السير على هذا الطريق الشاق الطويل  وهذا هو ما نقدمه لكم فى الخواطر المقبلة


الخــاطرة السابعة
زاد على طريق الدعوة
أول الزاد  تقوى وإخلاص
قال الله  عز وجل: وتزودوا فإن خـير الزاد التقوى واتقونِ يا أولى الألباب( )
وقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حُنفاء( )
ولا يعرف قدر هذا الزاد – التقوى والإخلاص – إلا من يعانى مشقة الطريق ووعورته ، وتؤذيه أشواكه التى تتجاذبه تارة وينجو منها تارة أخرى  بفضل الله جل وعلا
فهناك على الطريق أشواك الشبهات والشهوات
وهناك أشواك المطامع والمطامح
وهناك أشواك المخاوف والهواجس والفتن
والزاد الذى يكشف عن هذه الشبهات والشهوات  ويستعلى بصاحبه عن هذه المطامع والمطامح  ويزيل هذه المخاوف والهواجس ، ويثبت صاحبه عند الفتن ، ويثبت الأقدام على هذا الطريق الطويل – وسط هذه الأشواك – دون توقف أو انحراف إنما هو  التقوى والإخلاص
"وأصل التقوى" : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه ، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه"( )
وحدُّ التقوى الذى حدهَّ عبد الله بن مسعود  هو: "أن يطُاع الله – سبحانه وتعالى – فلا يعصى ، ويُذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر"( )
وعرفها طلقُ بن حبيب فقال: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله( )
وجاء سائل لأبى هريرة  يسئله عن التقوى فقال أبو هريرة: "هل أخذت طريقاً ذا شوك؟ قال السائل: نعم ، قال – أبو هريرة – فكيف صنعت ؟ فقال – السائل- إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال أبو هريرة: ذاك التقوى
فأخذ ابن المعتز هذا المعنى الكبير وترجمه فى هذه الأبيات المعبرة فقال:
خِّل الذنـوبَ صغيرها وكبيرها فهــــو التُّقَى
واصنع كمــاشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ، إن الجبــــال من الحَصَى
ولذا كانت التقوى وصية الله للأولين والآخرين كما فى قوله جل وعلا: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله( )
قال العلامة الفيروزآبادى عقب هذه الآية: "يُفهم منها أنه لو كانت فى العالم خَصْلةُ هى أصلح للعبد ، وأجمع للخير ، وأعظم للأجر ، وأجَلَّ فى العبودية ، وأعظمَ فى القدر، وأولى فى الحال وأنجحَ فى المال من هذه الخصلة لكان الله سبحانه أمر بها عباده وأوصى خواصه بذلك لكمال حكمته ورحمته
فلما أوصى بهذه الخصلة الواحدة جميع الأولين والآخرين من عباده واقتصر عليها: عَلمِنا أنها الغاية التى لا مُتجاوز عنها ، ولا مُقتصر دونها  وأنه عز وجل قد جمع كلَّ محض نُصح ودلالة وسُنةٍ وتأديب وتعليم وتهذيب فى هذه الوصية الواحدة  وقوله تعالى: إنما يتقبل الله من المتقين يُشعرُ بأن الأمر كله راجع إلى التقوى"( )
وكانت التقوى وصية رسول الله  لجميع أمته كما فى حديث العرباض بن سارية  وغيره( )
ولم يزل السلف الصالح  يتواصَوْن بها  وما أجمل ما أوصى به ابن السماك أخاً له قائلاً: أما بعد أوصيك بتقوى الله الذى هو نَجيُّك فى سريرتك ورقيبك فى علانيتك فاجعل الله من بالك على كل حالك فى ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك وأعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من مُلكه إلى مُلك غيره فليعظم منه حذرك ، وليكثر منه وَجلُك ، والسلام
ورحم الله من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علىَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعــة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ
فإن جاذبتنا بعض أشواك الطريق ، ووقع منا تفريط فى التقوى ، فتركنا مأموراً وفعلنا محظوراً – وهذا واقع – فلابد أن تسرع بالتوبة وأن نمحوا السيئة بالحسنة كما قال الله عز وجل : وأقم الصلاة طرفى النهار وزُلفاً من الليل إن الحسنات يُذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين( )
بل ولقد وصف الله المتقين فى القرآن الكريم وأخبرنا أن من صفاتهم أنهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بمعصية من المعاصى الكبيرة أو الصغيرة ، تذكروا الله عقب وقوعها فاستغفروه وتابوا إليه فى الحال من غير إصرار ولا استكبار فقال سبحانه وتعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون فى السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين( )
ولذا كانت وصية النبى  لمعاذ بن جبل  بعد التقوى أن يمحو السيئة بالحسنة إن وقعت السيئة  كما فى الحديث
"اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها وخالق الله بخلق حسن"( )
ومن زاد التقوى إلى زاد الإخلاص  فإن الإخلاص هو سر قبول الأعمال ومفتاح القلوب للداعية
وقد يكون عملُ الداعية جليلاً عظيماً كبيراً فى أعين الناس وهو عند الله جل وعلا حقير لا وزن له وله قيمة لأن صاحبه ما ابتغى به وجه الله تعالى
وكذلك قد يكون عمل الداعية صغيراً حقيراً فى أعين الناس وهو عند الله عظيم لأن صاحبه ابتغى بعمله وجه الله جل وعلا
والنبى  يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"( )
فليس هناك على النفس شئ أشق من الإخلاص  لأن الإخلاص هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك  ولا يدخل هنا العمل الطاهر – فقط – بل وأعمال القلوب أيضاً
والله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان له خالصاً ، ففى الحديث القدسى الجليل ، عن أبى هريرة  عن النبى  قال : قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه"( )
ولفظ ابن ماجه : "فأنا منه برئ وهو للذى أشرك" وفى حديث أبى هريرة الطويل أن النبى  قال: "إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلُ استشهدُ فأتى به فعرَّفه نِعَمَهُ ، فعرفها قال: فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشُهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت ، لأن يُقال : جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها، قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن  قال: كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ، ليقُال: عالمُ ، وقرأتَ القرآن ليقال : هو قارئ فقد قيل ، ثم أمر به فَسُحِب على وجهه حتى ألقى فى النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها ؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد ، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقى فى النار"( )
والله إنه لحديث يخلع القلب  شهيد وعالم وقارئ للقرآن ومنفق سخى هم أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ؟!! نعم لأن أعمالهم لم تكن خالصة لله جل وعلا ، وفى الحديث عن أبى أمامة  قال: "جاء رجل إلى رسول الله   فقال: أرأيت رجلاً عزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ فقال رسول الله : "لا شئ له" فأعادها ثلاث مرات ويقول رسول الله : "لا شئ له" ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغى به وجهه"( )
يقول صاحب "الإحياء" : فقد ظهر بالأدلة والعيان أنه لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة ، فالعمل بغير نية عناء ، والنية بغير إخلاص رياء ، وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء ، والإخلاص من غير صدق وتحقيقٍ هباء وقد قال الله تعالى فى كل عمل كان غيره وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً( )
ألم أقل لكم  إن أشق شئ على النفس الإخلاص !! فيجب علينا جميعاً أن نحسن النية وأن نخلص الطوية وأن نقف وقفة صدقٍ مع أنفسنا لنحاسبها ونسألها ، عن كل حركة وسكنة على طول طريق الدعوة  وهذه أسئلة أربعة تحتاج منا جواباً ، بصدق وإخلاص
1- لماذا ندعو ؟
2- ولمن ندعو ؟
3- وعلى أى رابطة نوالى ونعادى ؟
4- وعلى أى شئ نحب ونبغض ونَقُرِّب ونُبْعد ؟
هل ندعو لله جل وعلا ورسوله ؟
أم ندعو لجماعتنا وأنها وحدها هى التى على الحق وما عداها من الجماعات التى تعمل على الساحة كلها على الباطل – وليس هذا محض افتراء – وإنما قرأته بعينى فى أحدى الكتب !!
أم ندعو لقومية أو عصبية أو حزبية أو مذهبية أم ندعو لكرسى زائل ولمنصب فانٍ؟!
هل نوالى من والى الله ورسوله والمؤمنين كائناً من كان من أى جنسية كان ومن أى بلد كان ومن أى جماعة كان  ونعادى من عادى الله ورسوله والمؤمنين من أى جنسية كان  ومن أى بلد كان ومن أى جماعة كان ؟!
أم أننا رسمنا رسوماً وسميناً أسماءً ونصبنا أشخاصاً نوالى من والاها ونعادى من عاداها !!
هل نحب فى الله ونبغض فى الله ونقرب فى الله ونبعد فى الله ؟!
أم أننا نحب ونقرب من كان من أعضاء جماعتنا ومن كان على منهجنا وخطنا ونبغض ونبعد من لم ينضو تحت لوائها ولم يعط "البيعة !!!" لأميرها حتى ولو كان موحداً لله جل وعلا مجتهداً لدين الله متحركاً لدعوة الناس إلى الحق والهدى على منهج سلف الأمة !!
أسئلة هامة تحتاج إلى جواب  تحتاج إلى صدق مع الله  إلى صدق مع النفس تحتاج إلى قلب تقى نقى  وإلى عقل واعٍ سليم  تحتاج إلى تجرد وإخلاص
إن الدعاة من أهل السنة والجماعة الذين درجوا على منهاج النبوة وسلكوا طريق سلف الأمة
ليس لهم إمام أو قائد ينتمون إليه ويأتمون بأمره كله وينتهون بنهيه كله إلا النبى  قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى - :
"وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته ويوالى ويعادى عليها غير النبى  ولا ينصب لهم كلاماً يوالى عليه ويعادى غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة ، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون"( )
وليس لهم رسم ولا منهج سوى منهاج النبوة متمثلاً فى القرآن والسنة بفهم السلف الصالح
ولما جاء رجل إلى الإمام مالك – رحمه الله تعالى – فقال: يا أبا عبد الله ، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بينى وبين الله عز وجل
قال مالك : "ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سَلْ"
قال : مَنْ أهل السنة ؟
قال مالك: "أهل السنة الذين ليس لهم لقب يُعرفون به ، لا جهمى ولا قَدِرىّ ولا رافضى"( )
ويقول الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – فى علامات أهل العبودية
العلامة الثانية:
قوله: "ولم يُنسبوا إلى اسم" لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس ، من الأسماء التى صارت أعلاماً لأهل الطريق
وأيضاً فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجرى عليهم اسمه فيعرفون به دون غيره من الأعمال ، فإن هذا آفة فى العبودية ، وهى عبودية مقيدة ، وأما العبودية المطلقة فلا يعرف صاحبها باسم معين من معانى أسمائها فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها ، فله مع كل أهل عبودية نصيب ، يضرب معهم بسهم ، فلا يتقيد برسم ، ولا إشارة ولا اسم، ولا بزى ، ولا طريق وضعى إصطلاحى ، بل إن سُئل عن شيخه ؟ قال: الرسول وعن طريقه ؟ قال الاتباع  وعن خْرقَته ؟ قال: لباس التقوى وعن مذهبه؟ قال: تحكيم السنة  وعن مقصده ومطلبه ؟ قال: يريدون وجهه( ) وعن رباطه وعن خانكاه ؟ قال: فى بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والأصال رجل لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة( ) وإن سُئل عن نسبه ؟ قال:
أبى الإسلامُ لا أبا لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم( ) اهـ
وليس لهم طائفة أو جماعة يتعصبون إليها ، بل إن جماعتهم التى ينتمون إليها هى جماعة المسلمين  "وجماعة المسلمين واحدة ، لا تتعدد فوق أى أرض ، وتحت أى سماء ليس لها رسم معين سوى النص الشرعى وموجبه فهى الدعوة إلى الله بيسرها وسهولة تبليغها كما كانت فى الصدر الأول
وعليه فإن أى فرقة أو حزب أو جماعة تعيش تحت مظلة الإسلام باسم معين أو رسم خاص ، فهى من جماعة المسلمين ، وتقترب وتبتعد من الصراط المستقيم الذى عليه جماعة المسلمين بقدر ما لديها من مناهج وخطط ، وتصورات يقرها الإسلام أو ينفيها
أما التى يكون انتسابها إلى الإسلام تلبيساً وظلماً كالبابية والبهائية والقاديانية والبريلوية  فهذه فرق كافرة لا دخل لها تحت سرادق بحثنا"( )
ويقبلون الحق أيَّا كان قائُله ، ويرفضون ويردون الباطل أيَّاً كان قائله ، فهم لا يعرفون الحق بالرجال وإنما يعرفون الرجال بالحق ، فكل يؤخذ منه ويُرُّد عليه إلا المعصوم
هؤلاء – أحبتى فى الله – هم دعاةُ أهل السنة والجماعة ومن اقتفى أثرهم  وهذه سماتهم إلى قيام الساعة ولذا ماتوا وبقيت دعوتهم على فم الزمان وخلدت على صفحة الأيام ، فارقونا بأبدانهم ولم يفارقونا بعلمهم وهديهم  نعم ، فهل نُسى البخارى – رحمه الله – كلا  ولن يُنسى إلى قيام الساعة  فلقد فارقنا بجسده وبقى صحيحه كالشمس للدنيا وكالعافية للناس  وكذا فارقنا الإمام مسلم وبقى صحيحه ، وفارقنا مالك وبقى موطأه ، وفارقنا أبو حنيفة وبقى فقهه ، وفارقنا الشافعى وبقى الرسالة والأم ، وفارقنا أحمد وبقى مسنده ، وفارقنا ابن تيمية وبقى مجموعه المذهل ، وفارقنا الذهبى وبقى سير أعلام النبلاء ، وفارقنا النووى وبقى المجموع المدهش العجيب ، وفارقنا ابن كثير وبقى التفسير وفارقنا ابن الجوزى وبقى زاد المسير وفارقنا الشوكانى وبقى النيل العجيب ، وفارقنا ابن حجر وبقى الفتح ، وفارقنا السيوطى وبقى الدر المنثور ، وفارقنا ابن قدامة وبقى المغنى ، وفارقنا الشنقيطى وبقى أضواء البيان ، وفارقنا ابن القيم وبقى إعلام الموقعين  وغيرهم كثير  فإن الدعوة أبقى من الداعية ، وإن الدعاة والعلماء جميعاً إلى فناء  والدعوة إلى بقاء  والدعوة أبداً أكبر من دعاتها وأبقى منهم ، لأن الدعاة يجيئون ويذهبون وتبقى الدعوة على مر الأجيال والقرون  ومن ثم  فينبغى للدعاة خاصة ولأبناء الحركة الإسلامية عامة أن يجعلوا ولاءهم لدعوة الله جل وعلا ، لا لشخص الداعية  وهذا داء عضال !! يجب علينا جميعاً أن نتحرر منه  لأنه كم توقفت دعوات أو تعطلت بسبب ارتباط أفرادها ارتباطاً مباشراً بشخص الداعية لا بدعوته، فإذا مات هذا الداعية أو ترك مجال دعوته لسبب أو لآخر تصاب دعوته بالتوقف أو بالإعياء على أقل حال !!
ولخطورة هذا الأمر أراد الله جل وعلا أن يربى الصحابة  ويعلمهم هذا الدرس الهام فى حياة النبى  ، ففى غزوة أحد تعرض النبى – بأبى هو وأمى – للموت ، وشجت رأسه ونزف دمه الشريف حتى صاح صائح فى أرض المعركة قائلاً: إن محمد - - قد قتل  وهنا أحس بعض المسلمين أن أمر هذا الدين قد انتهى وأنه لا جدوى ولا فائدة إذن من قتال المشركين فنزل قول الله جل وعلا :
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشاكرين( )
نعم  "إن محمداً -  - ليس إلا رسولاً  سبقته الرسل ، وقد مات الرسل ومحمد -  - سيموت كما مات الرسل قبله  هذه حقيقة أولية بسيطة  فما بالكم غفلتكم عنها حينما واجهتكم فى المعركة ؟!  إن محمداً رسول من عند الله ، جاء ليبلغ كلمة الله ، والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت  وما ينبغى أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبى الذى جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل  وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها فى زحمة الهول  وما ينبغى للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة !  وكأنما أراد الله سبحانه ، بهذه الحادثة وبهذه الآية ، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبى  وهى حىُ بينهم وأن يصلهم مباشرة بالنبع  النبع الذى لم يفجره محمد ، ولكن جاء فقط ليومىء إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق ، كما أومأ إليه من قبله الرسل ، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه !
وكأنما أراد الله – سبحانه – أن يأخذ بأيديهم ، فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى العروة التى لم يعقدها محمد -  - إنما جاء ليعقد بها أيدى البشر ثم يدعهم عليها ويمضى وهم بها مستمسكون !
وكأنما أراد الله – سبحانه – أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسئوليتهم فى هذا العهد أمام الله وبلا وسيط حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التى لا يخليهم منها أن يموت الرسول  -  - أو يقتل فهم إنما بايعوا الله وهم أمام الله مسئولون!" ( ) اهـ
ووعى أصحاب النبى  هذا الدرس الكبير فحملوا الأمانة – من بعده – وكانوا أحق بها وأهلها ورفعوا راية التوحيد خفاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء  فهل سنعى الدرس نحن أبناء الحركة ؟
وننطلق بهذه الراية وهذا الحمل الثقيل مخلصين لله جل وعلا ، لا نبغى غيره ولا نرجو سواه ؟
حقاً إنه أول زاد يجب علينا أن نتزود به قبل أن نخطو على طريق الدعوة الطويل – إنه زاد التقوى والإخلاص – لمراقبة الله فى الشر والعلن ولتكن أقوالنا وأعمالنا وجهودنا للدعوة خالصة لله جل وعلا


الخــاطرة الثامنة
وزادنا الثاننى علم وفهم وعمل

والقاعدة تقول: من سلك طريقاً بغير دليل ضل  ومن تمسك بغير الأصول زل!!
والدليل المنير فى الظلماء  والأصل العاصم من الأهواء إنما هو "العلم"
فهو الأنيس فى الوحدة ، والصاحبُ فى الغربة  والمحدث فى الخلوة  والحاكم المفرق بين الشك واليقين  والغى والرشاد  والهدى والضلال
إنه زاد العقول من الجهل  وحياة القلوب من الموت ، ومصباح الأبصار من الظلمة  وقوة الأبدان من الخوف والضعف
به – بالعلم – يُعرف الله ويُعبد  ويُذكر ويوُجد ويُحمد ويُمجد  وبه اهتدى إليه المؤمنون وعرفه العِالُمون
لا يمنحه الله إلا للسعداء
ولا يُحرم منه إلا الأشقياء
ورحم الله من قال:
ما الفخرُ إلا لأهـل العلم إنهُم على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدُر كل امرئ ما كان يُحسنه والجاهــلون لأهل العلم أعداءُ
ففز بعلم تعش حيا به أبــداً الناس موتـى وأهل العلمِ أحياء

لذا  فإن أغلى ما يطلب فى هذه الدنيا هو العلم ، بل ولم يأمر الله جل وعلا نبيه  بطلب الازدياد من شئ من هذه الدنيا إلا من العلم  فقال سبحانه : وقل رب زدنى علما
ومن أعظم كرامات الله تعالى لأهل العلم ، أنه جل وعلا قد استشهد بهم على أجل وأعظم مشهود به  ألا وهو التوحيد  وقرن شهادة أهل العلم بشهادته سبحانه ، وشهادةِ ملائكته  وهذه هىَ أعلى وأعظم درجات التعديل فإن الله جل وعلا لا يستشهد بمجروح !!
فقال سبحانه : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم( )
يشهد الله تعالى لنفسه بالوحدانية ويثنى فى هذه الشهادة الكريمة بملائكته ثم يثلث بأهل العلم
ثم رفع الله شأنهم وأعلى منزلتهم وأجل قدرهم فقال عز وجل: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات( )
ولم لا ؟! وقد شهد الله جل وعلا لهم بهذه الشهادة الزكية فقال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ( )
فلا طريق – أحبتى فى الله – إلى معرفة الله تعالى والوصول إلى رضوانه والفوز بجنته إلا بالعلم النافع الذى أنزل به كتبه وبعث به رسله
والناس على حق وفى خير وهدى ما دام العلم باقياً فى الأرض ، فإن ذهب العلم بذهاب أهله وقع الناس فى الضلال  هكذا قال سيد الرجال محمد   ففى الحديث الذى رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو عن النبى قال : "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عَاِلماً اتخذ الناس رؤساً جُهالاً فَسُئِلوا فأفْتَواْ بغير علم فضلوا وأضلوا"( )
ومن ثم فلقد كان النبى  عظيمَ الاهتمام بالعلم ، شديدَ الحفاوة بأهله  وهذا طالبُ علم كريم يجسد لنا هذه الحفاوة الكريمة فيقول: صفوانُ بنُ عَسَّالٍ المُرادى    أتيتُ النبى - - وهو فى المسجد متكئُ على بُردٍ له أحمر فقلت له : يا رسول الله إنى جئتُ أطلبُ العلم فقال النبى : "مرحباً بطالب العلم ، إن طالبَ العلم تحفه الملائكةُ بأجنحتها ثم يركب بعضها بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب"( )
وكان الإمامُ أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى – يقول: الناسُ إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب  لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب فى اليوم مرة أو مرتين وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه
والحدث عن فضل العلم حديث طويل وله موضع آخر  فإذا كان ذلك كذلك فإن أولى الناس بذلك هم الدعاة إلى الله تعالى بصفة خاصة وأبناء الحركة الإسلامية بصفة عامة
فإن أول واجبٍ على الداعية "المؤهل" الذى يشتغل بالدعوة إلى الله عز وجل قبل أن يخطو على طريق الدعوة  هو طلب العلم الشرعى من نبغيه الصافيْين الكريمْين  القرآن والسنة  ليكون العلم دليله وهاديه على طول الطريق من أول قدم إلى آخر قدم ينتهى إليه
ومن أفقه التراجم التى ذكرها الإمام البخارى – رحمه الله – فى الصحيح ترجمة بعنوان  "باب : العلم قبل القول والعمل"( )
لقول الله جل وعلا: فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم( )
فلقد أمر الله تعالى نبيه  فى هذه الآية الكريمة بأمرين ، فبدأ بالعلم فقال تعالى: فاعلم أنه لا إله إلا الله ثم أعقبه بالأمر الثانى وهو العمل فقال تعالى: واستغفر لذنبك
فدل ذلك على أن مرتبة العلم مقدمة على مرتبة العمل "وأن العلم شرط فى صحة القول والعمل فلا يعُتبران إلا به ، فهو متقدم عليهما ، لأنه مصححُ للنية المصححة للعمل"( )
والعلم الممدوح الذى دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذى ورثَّه الأنبياء كما قال النبى  : " وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"( )
وقد قسم شيخ الإسلام هذا العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله وأسمائه وصفاته وما يتبع ذلك
القسم الثانى: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون من الأمور المستقبلة وما هو كائن من الأمور الحاضرة
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة ، ويندرج فيه ما وجد فى كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة ، فإن ذلك جزء من جزءٍ من علم الدين"( )
والسؤال الهام الذى يثور هنا هو: ما هى أهم الأسباب والطرق الموصلة لتحصيل العلم الشرعى ؟
والجواب فى عُجالة سريعة:
أولاً: أن يلجأ الداعية الصادق وطالب العلم المخلص  إلى الله جل وعلا وهو الذى علم داود وفهم سليمان أن يعلمه وأن يفهمه ، ولن يعرف قدر هذا الدعاء وفضل هذه الاستعانة إلا من وجد بردها وذاق فضلها  وبالله إن فضلها لعظيم !! ولقد كان النبى نفسه يلجأ إلى الله تعالى مستعيناً به سبحانه أن يعلمه وأن ينفعه بما علمه فيقول: "اللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى ما ينفعنى وزدنى علماً"( )
ثانياً : بذل أقصى ما يمكن من جهد ووقت ومال لطلب العلم والصبر على ذلك، والحرص على أخذ العلم من أهله المتحققين به ، وقديماً قالوا : لقد كان العلم فى صدور الرجال ثم انتقل إلى بطون الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال  ولما سُئل أحدهم ، ما السبب الذى ينال به العلم ؟ فقال: بالحرص عليه يتبع وبالحب له يستمع وبالفراغ له يجتمع
ورحم الله الشافعى حيث قال( ):
أخى لن تنال العلم إلا بستـة سأنبئك عن تفصيلها ببيـان
ذكاءُ وحرصُ واجتهادُ وبلغةُ وصحبة أستاذ وطول زمان
يقول الإمام الشاطبُى – رحمه الله تعالى - :
"وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله المتحققين به فلذلك طريقان:
الأول: المشافهة وهى أنفع الطريقين وأسلمها لوجهين
الوجه الأول:
خاصية جــعلها الله تعالى بين المعلم والمتعــلم ، يشـهدها كل من زاول العلم والعلـماء، فكم من مسألة يقـرؤها المتعلم فى كتاب ، ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها عليه المعلم فهمها بغتة وحصل له العلم بها ، وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادى من قرائن الأحوال وإيضاح موضوع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال ، وقد يحصل بأمر غير معتاد ، ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدى المعلم ظاهر الفقر بادى الحاجة إلى ما يُلقى إليه ، إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم – أى العلماء – ما لا يفتح له دونهم
الطريق الثانى: لأخذ العلم :
مطالعة كتب المصنفين ومدونى الدواوين وهو أيضاً نافع فى بابه بشرطين – ومازال الكلام للشاطبى :
الأول:
أن يحصل له – أى لطالب العلم – من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم به النظر فى الكتب
والشرط الثانى:
أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين ، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ فى علم ما بلغه المتقدم ، فتحقق الصحابة  بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين ، والتابعون ليسوا كتابعيهم وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم ، أبصر العجب فى هذا المعنى وأما الخبر ففى الحديث "خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم"( ) وفى هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك" اهـ( )
وأود أن أوضح أنه ليس معنى ذلك أن نُعرض عن كل ما هو حديث من الكتب والمصنفات إعراضاً تاماً فمنها ما هو مفيدُ فى بابه كثيراً ، لما تمتاز به من تحقيق وتدقيق وتبويب وسهولة فى العرض ، بل ومنها ما لا يمكن بحال أن يستغنى عنه الباحث وطلاب العلم فضلاً عن الدعاة والعلماء ككتب الحديث المحققة والمعاجم والفهارس وفتاوى المجامع الفقهية المعاصرة وغيرها  ولا مانع من استشارة العلماء فى هذا الجانب
ثالثاً: من أهم الأسباب والطرق الموصلة لتحصيل العلم الشرعى  ترك الذنوب والمعاصى بتقوى الله عز وجل : واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم( )
ولهذا كان عبد الله بن مسعود  يقول: "إنى لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله"( )
ولما جلس الشافعى بين يدى مالك – رحمهما الله – وأعجب مالك بذكاء الشافعى وحفظه قال له يا شافعى : "إنى أرى الله قد جعل فى قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية( )"
وقال الإمام الشافعى رحمه الله تعالى:
شكوت إلى وكيع( ) سوء حفظى فأرشدنى إلى ترك المعاصى
وأخبرنى بأن علم الله نـــور ونور الله لا يُهدى لعاصى( )
وإن زلَّ الداعية أو طالب العلم فعليه أن يحدث توبة فالكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
رابعاً: عدم الكبر والحياء
فالحياء يمنع من السئوال والتفقه فى الدين وهذا مذموم فى هذه الحالة – لأن الحياء خيرُ كله – ولهذا قالت عائشة رضى الله عنها : "نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين"( )
وقال مجاهد : "لا يتعلم العلم مستحى ولا مستكبر"( ) والكبر داء عضال ينخر فى جسم الحركة ويعرض مسيرها لكثير من الأخطار فلو لم يتكبر كل فرد من أفرادها ينقصه العلم وتعوزه المعرفة أن يذهب إلى العلماء وأن يزاحم مجالسهم لما رأينا مثل هذه الخلافات الحادة التى لا يمكن بحال أن نغض الطرف عنها أو نتجاهلها ورحم الله الغزالى الإمام حيث يقول: "لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف"
خامساً : وقطب الرَّحى بين هذه الأسباب ، وبوصلة الخير التى ستحدد المسار وتوضح الاتجاه لهذه الطرق هى "الإخلاص" وهذا هو باب السعادة وسر القبول أن يكون طلبك خالصاً لله جل وعلا وفى حديث كعب بن مالك الأنصارى  قال: سمعت رسول الله يقول : "من طلب العلم ليجارى به العلماء أو ليمارى به السفهاء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو فى النار"( )
وبعد  فإذا وُفِق الداعية لتحصيل هذا الزاد الكريم فليتريث قليلاً ليحمل معه زاداً آخر لا غنى لزاد العلم عنه بحالٍ من الأحوال ألا وهو "الفهم"
فإن من أخطر التحديات التى تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة هو التعامل الخاطئ من بعض أفرادها مع النصوص العامة أو الخاصة وذلك بسوء فهمها ومن ثمَّ بالاستشهاد بها فى غير محلها أو بوضعها فى غير موضعها أو بدون فهم المناطات العامة والخاصة التى لابد منها للربط الصحيح السليم بين دلالات النصوص وحركة الواقع
وللخروج من هذا المأزق الحرج فلابد من العودة إلى سلف الأمة وعلمائها الثقات لفهم نصوص الكتاب والسنة فهذا هو المنهج المنضبط للفهم الصحيح
فكل خير فى اتباع من سلف وكل شر فى ابتداع من خلف
فطلب العلم – أيها الأحبة – بدون فهم دقيق ووعى عميق قد يضر ولا ينفع ، بل وقد يعرض الحركة لأضرار خطيرة وسقطات كبيرة وزلات كثيرة بل إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصلُ كل بدعة وضلالة نشأت فى الإسلام قديماً وحديثاً  وهو أصل كل خطأ وخلاف فى الأصول والفروع
ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والروافض وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله"
ومن ثم نرى الإمام البخارى – رحمه الله تعالى – يبوب باباً عجيباً فى صحيحه بعنوان "باب الفهم فى العلم" يقول الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – والفهم فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل"( )
وفى الحديث الصحيح من حديث معاوية بن أبى سفيان  قال: سمعت النبى  يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين"( )
ويقول الحافظ ابن حجر: "يفقهه" أى يفهمه ، ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه فى الدين أى يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع فقد حرم الخير"( )
ولاشك أن الناس يتفاوتون فى هذا الباب تفاوتاً عظيماً ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم لاسيما إذا علمنا أن دلالة النصوص نوعان:
وهذا ما يقرره العلامة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"فيقول: دلالة النصوص نوعان: حقيقية وإضافية
فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف
والإضافية تابعة السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها وهذه الدلالة تختلف اختلافاً متبايناً بحسب تباين السامعين فى ذلك"( )
ثم ذكر ابن القيم عدة أمثلة لهذا الفهم الدقيق والوعى العميق للنصوص ، نذكر منها هنا بعضها فيقول: "وقد قال عمر بن الخطاب –  – للصحابة ما تقولون فى : إذا جاء نصر الله والفتح أول سورة النصر" فقالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ، فقال عمرُ لابن عباس ما تقول أنت؟ فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله  أعلمه إياه فقال عمر: ما أعلم منها غير ما تعلم يقول: ابن القيم : وهذا من أدق الفهم وألطفه ، ولا يدركه كل أحد
ومنه ما فهمه ابن عباس أيضاً  من قوله تعالى: وحمله وفصاله ثلاثون شهراً( ) مع قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( ) فهم منهما ابن عباس أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان  فهم برجم امرأة ولدت لستة أشهر ، حتى ذكره ابن عباس فأقرَّ به
ولم يفهم عمرُ بن الخطاب من قوله : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قتال مانعى الزكاة حتى بين له الصديق  فأقرَّ به عمر  " : اهـ( )
والأمثلة فى هذا الباب كثيرة جداً  والشاهد أننا بحاجة ماسة إلى عدم التعجل وإلى فهم دقيق ووعى عميق للنصوص التى نتعامل معها حتى لا نخطأ ولا نضر دعوتنا من حيث لا نشعر فإن الإخلاص وحده لا يكفى فى مثل هذه الدروب
وبعد فهم العلم وجب علينا حينئذٍ أن نتوج هذين الزادْين العظيمين بزاد "العمل" فإننا فى أمس الحاجة فى هذه الفترة إلى دعاة أتقياء أصفياء يحولون الإسلام إلى واقع ملموس وإلى مجتمع يتحرك  لاسيما إذا علمنا أنه أصبح يحكم – فى زماننا هذا – على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر وسلوك بعضهم المنحرف !!
فلا يكفى أبداً – يا أبناء – الصحوة – أن نشهد للإسلام شهادة قولية – فقط – بل يجب أن نشهد له شهادة عملية كما شهدنا له شهادة قولية ، لأن التناقض بين القول والعمل يزرع بذور النفاق فى القلوب والعياذ بالله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون( )
نعم  فِعلْمُ وفَهْمُ لا يدفع صاحبه إلى العمل والقرب من الله جل وعلا والبعد عن معصيته فلا خير فيه ولا بركة  بل قد يكون وَبَالاً وحُجَّة على صاحبه فالعلم لا قيمة له بدون العمل
وكان عبد الله بن مسعود  يقول: "تعلموا تعلموا فإذا علمتم فاعملوا"( )
وقال أبو الدرداء  : "لا تكون تقياً حتى تكون عالماً ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملا"( )
ورحم الله من قال:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً عليك ولم تعـذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعله
وما أحوجنا حقاً إلى هذه الوصية الغالية لعلى بن أبى طالب  حيث يقول: "يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حِلَقاً فيباهى بعضهم بعضاً حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه ، أولئك لا تصعد أعمالهم فى مجالسهم تلك إلى الله عز وجل"( )
يا سبحان الله  !!
فكم من مذكر بالله وهو ناسٍ لله !
وكم من مخوف بالله وهو جرئ على الله !
وكم مقرب إلى الله وهو بعيد عن الله !
وكم من داع إلى الله وهو فار من الله !
وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ من آيات الله !
وأختم الحديث عن ضرورة هذا الزاد بحديث يخلع القلب ويبكى العَينْ ألا وهو حديث أسامة  قال: سمعت رسول الله يقول : "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحا فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان : مالك ؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول: بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه"( )
ورحم الله من قال:
يا أيها الرجل المــعلم غيـــره هلا لنفسك كـــان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السقام من الضنى ومن الضنى تمسى وأنت سقيم
لا تنْه عن خلق وتأتى مثلـــــه عــار عليك إذا فعلـت عظيم
ابــدأ بنفسك فانهها عــن غَيِّها فإذا انتهت عنــه فأنت حكيم
فهناك يُقبل ما تقــــول ويُقتدى بالقــول منك وينفـع التعليم
فإن وقع الداعية أو طالب العلم فى زلة ناشئة عن الغفلات التى لا ينجو منها البشر فلا ينبغى أن تكون سبباً ليتخلى عن دعوته  كلا ، فالكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه ورسله  بل يجب أن يعتصم بالله جل وعلا وأن يحدث توبة الله تعالى وأن يكثر من الاستغفار والعمل الصالح امتثالاً لأمر رسول الله لمعاذ  "وأتبع السيئة الحسنة تمحها"( )
وبعد  فإن وفقنا الله تعالى لتحصيل هذا الزاد المبارك – علم وفهم وعمل – فهيا لنسابق الزمن ، لدعوة الناس جميعاً إلى الله عز وجل  ولتكن دعوتنا – أيها الأحبة – بحكمةٍ ورحمةٍ وتواضع  وهذا هو زادنا فى الخاطرة المقبلة


الخــاطرة التاسعة
وزادنا الثالث حكمة ورحمة وتواضع

إن الدعاة إلى الله جل وعلا لا يعيشون لأنفسهم  لأن الذى يعيش لنفسه – فقط- من أجل شهواته ورغباته وأهوائه قد يعيش مستريحاً وربما يكون سعيداً  ولكنه يعيش صغيراً ويموت صغيراً !!
أما الدعاة الصادقون فإنهم يعيشون لدعوتهم  هى هَمُهم بالليل والنهار  هى فكرهم فى النوم واليقظة  هى شغلهم فى السر والعلن  يؤثرون من أجلها التعب والنصب  ويضحون فى سبيلها بالوقت والجهد والمال بل والمُهَجِ والأرواح  ويستعذبون فى سبيل نشرها وإبلاغها البلاء والعذاب والفتن  ويخوضون بها معركة تلو المعركة  معركة مع الكفر وأعوانه ومع الباطل وأنصاره  ومعركة مع الشهوات والشبهات ولا يعرف حجم هذه المعارك الضخمة – التى يخوضها دعاة الحق بدعوتهم –إلا من عرف حجم الباطل وشراسة الكفر من ناحية وحجم التواءات النفس البشرية التى تدنسها الشهوات وتنهكها الشبهات فى ناحية أخرى  لاسيما إذا طال عليها الأمد فلم تُذكرَّ ولم ترُغب ولم ترُهب !! ومن ثم  كان لابد للدعاة لخوض هذه المعارك بسلاح الدعوة !! من حكمة ورحمة وتواضع
خاصة وأننا – نحن الدعاة – لا نتعامل مع ملائكة بررة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون  ولا نتعامل أيضاً مع أحجار صلدة لا تحس ولا تشعر ولا تفرح ولا تحزن  كلا ، بل إننا نتعامل مع نفوس بشرية فيها الإقبال والإحجام  فيها الخير والشر  فيها الحلو والمر  فيها التقوى والفجور  فيها الطاعة والمعصية  كما قال خالق هذه النفس البشرية سبحانه وتعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها( )
فإذا جهلنا مداخل هذه النفس البشرية وطبيعتها فقد لا تؤتى دعوتنا ثمارها المرتجاة ومن رحمة الله بنا وحتى لا نضل الطريق أو ينحرف بنا المسار حدد لنا خالق هذه النفس – جلا وعلا – الطريق الصحيح والمنهج المتكامل للدعوة الصحيحة الراشدة فى آية واحدة من كتاب الله سبحـانه وتعالى فقال عز وجل : مخاطـباً سيد الدعاة وإمام الأنبيـاء محمداً  بقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين( )
وهنا نلحظ أن الله تعالى قد أطلق لفظ الحكمة فلم يقيدها بوصف الحسنة  لأن الحكمة كلها حسنة ووصف الحسن لها ذاتي !!
وأما الموعظة فقد قيدها – تبارك وتعالى – بالإحسان ، إذ ليس كل موعظة حسنة!!
وكذلك الجدال ينبغى أن يكون بالتى هى أحسن سواء مع المجادل نفسه أو لما يجادل به من أدلة وحجج وكلمات وأداء يوضح المقصود ويوصل إلى المطلوب !! دون تعنيف أو توبيخ أو تحقير أو ازدراء لا لشخص المجادل ولا لفكره  لاسيما إن كان لا يدرى ويدرى أنه يدرى !!
فالدعوة أولاً  لله جل وعلا ادع إلى سبيل ربك لا لشخص الداعية ولا لقومه ولا لجماعته ولا لكرسيه الزائل ومنصبه الفانى !! أجل  فليس للداعى من دعوته إلا أن يؤدى واجبه خالصاً لله جل وعلا  وألا تحدثه نفسه البتة بفضل ما !! لا على الدعوة  ولا على من يديهم الله جل وعلا على يديه  فالفضل لله وحده الذى من عليه وشرفه بالدعوة وأعانه ووفقه لتحمل تبعاتها بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنت صادقين( )
والدعوة ثانياً  يجب أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن  فما هى الحكمة ؟ لأنها زادنا الذى نريد تحصيله
الحكمة: هِبَةُ وفضل من الله جل وعلا لمن شاء من عباده كما قال عز وجل: يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً( )
وقد حدَّها الإمام ابن القيم فى المدارج حَّدا جامعاً فقال( ): "الحكمة هى فعل ما ينبغى على الوجه الذى ينبغى فى الوقت الذى ينبغى"
ومنهم من عرفها بقوله: "الحكمة هى الإصابة فى الأقوال والأفعال ووضع كل شئ فى موضعه"( )
"وللحكمة ثلاثة أركان هى( ) :
العلمُ والحلم والأناة
وآفاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة ، فلا حكمة لجاهلٍ وطائشٍ وعجول"
فالداعية الحكيم  هو الذى ينظر بوعى ثاقب وبصيرة مشرقة إلى واقع أمته الجريحة ليتعرف على أسباب ذلها وضعفها وغياب هويتها من ناحية  وإلى حجم المؤامرات التى تحاك لها فى الليل والنهار من ناحية أخرى  ليشخص الداء بدقة قبل أن يحدد الدواء !! فلا يكون بدعوته فى وادٍ وأمته الجريحة فى وادٍ أخر  فيعلم الذى ينبغى أن يقال فى الوقت الذى يجب فيه أن يقال
الداعية الحكيم  هو الذى يبذل عرقه وجهده وفكره وروحه لتهيئة النفوس الشاردة والعقول المشوشة لتقبل الحق وذلك بالتلطف والتدرج والفهم العميق لحجم شرود هذه النفس وقدر التشويش عند هذا العقل وذلك لإعداد الحجة والبلاغ الذى يتناسب مع حال المدعوين من حيث انتهى إليه فهمهم لا من حيث انتهى إليه فهم الداعى !! فالناس يختلفون فى عقولهم وفهمهم وطبائعهم وأخلاقهم ومستواهم الفكرى والاجتماعى ومن ثم تختلف الطرق والوسائل التى يجب على الداعية أن يسكلها وما أجمل قول على بن أبى طالب  : "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله"( )
ومثله قول ابن مسعود  فى صحيح مسلم: "ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"( ) ومثله قول عائشة رضى الله عنها: "أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم"( ) فلا يكفى أن تعلم فقط ولكن أيضاً أن تعرف متى وأين وكيفُ يبلِّغ ما تعلم !!
الداعية الحكيم هو الذى يفهم الإسلام فهماً صحيحاً كما فهمه سلف الأمة ثم ينطلق لدعوة الناس إلى الإسلام بشموله لنقلهم من صورة الإسلام إلى حقيقة الإسلام  وذلك بدعوتهم إلى الأصول قبل الفروع وإلى الكليات قبل الجزئيات وانتبهوا جيداً – أحبتى – فإنى لا أقول يدعو الناس إلى الأصول ويهزأ بالفروع أو يدعوهم إلى الكليات ويسخر بالجزئيات  فهذه شنشنة خطيرة ومزلة كبيرة وقع فيها بعض العلماء والدعاة  فالدين كلُ لا يتجزأ، بأصوله وفروعه ، وكلياته وجزئياته  وفرق كبيرُ جداً – فى مراحل الدعوة- بين فقه الأولويات وبين السخرية وتحقير الفرعيات والجزئيات!!
الداعية الحكيم هو الذى ينظر بوعى ثاقب وبصيرة نيرة إلى مآلات الأقوال والأفعال من مصالح ومفساد  لأن الحماس قد يدفعنا أحياناً إلى العجلة وعدم التأنى والصبر  ولكن يجب أن تكون الأقوال والأفعال ، بل والاجتهادات الحركية المتجددة بتغير الظروف وتجدد الأحداث ، يجب أن تكون – جميعها – منبثقة من خلال منهج مضبوط وفق الأصول الشرعية والحق أن غياب هذا الأصل العظيم يُرْبكُ الحركة الإسلامية بشتى فصائلها من حين لآخر وقد يعطل مسيرها أحياناً
"والشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد ، وهى عَدْل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوْرِ وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العَبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه وهى نوره الذى به أبصر المبصرون وهداه الذى به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذى به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذى من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهى قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح وكل خير فى الوجود فإنما هو مستفاد منها وحاصل بها ، ومن ذلك أن النبى  شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره ومن تأمل ما جرى على الإسلام فى الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل ، فقد كان رسول الله  يرى بمكة أكبرَ المنكرات ولا يستطيع تغييرها بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته على خشية وقوع ما هو أعظم منه على عدم احتمال قريش ذلك ، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثى عهد بكفر"( )
وأخيراً فإن الداعية الحكيم هو الذى يعرف متى يعدل عن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق واللين إلى الشدة – أحياناً – إذا انتهكت حرمة من حرمات الله ولكن بالقدر الذى ينبغى مع مراعاة الضوابط الشرعية التى ذكرناها آنفاً  ولنا فى رسول الله  الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة فلقد كان النبى  إذا انتهكت حرمة من حرمات الله ولكن بالقدر الذى ينبغى مع مراعاة الضوابط الشرعية التى ذكرناها آنفاً  ولنا فى رسول الله  الاسوة الحسنة والقدوة الطيبة فلقد كان النبى  إذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب غضباً شديداً  نعم  فانظروا كيف كانت غضبته لله تعالى حينما جاءه أسامة بن زيد –  – يشفع عنده فى المرأة المخزومية التى سرقت ، فتلون وجهه  وقال: "أتشفع فى حد من حدود الله يا أسامة" فلما كان العشى قام رسول الله  خطيباً فأثنى على الله بما هو أهله فقال: "أما بعد أيها الناس إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإنى والذى نفسى بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"( )
وبعد فإنه من الحكمة أن نختم الحديث عنها بمشهد عملى ودرس واقعى من معلم الناس الحكمة – بأبى هو وأمى - 
ففى الحديث الذى أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى وابن ماجه من طرق عن أبى هريرة  قال: قام أعرابى فبال فى المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبى : "دَعُوه وأهْريقُوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذنوباً من ماء فإنما بعثتمُ مُيسَرِّين ولم بتعثوا معسرين" ولفظ أبى دواد : ثم قال: "إن اعرابياً دخل المسجد ورسول الله  جالس فصلى ركعتين ثم قال: اللهم ارحمنى ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً فقال النبى : لقد تحَّجرتَ واسعاً ثم لم يلبث أن بال فى ناحية المسجد فأسرع الناس إليه " وفى رواية لأحمد "فقام إليه رسول الله  فقال : إنما بنُى هذا البيت لذكر الله والصلاة وإنه لا يُبال فيه ثم دعا بسجل من ماء فأفرغه عليه قال: يقول الأعرابى بعد أن فقه : فقام النبى  إلىَّ بأبى هو وأمى فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب"  وفى رواية لمسلم وغيره عن أنس قال: بينما نحن فى المسجد مع رسول الله  إذ جاء أعرابى فقام يبول فى المسجد فقال أصحاب رسول الله مَهْ مَهْ قال : قال رسول الله : "لا تُزْرمُوُه دَعُوُه ، فتركوه حتى بال ثم إن رسول الله  دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من هذا البول ولا القَذَر إنما هى لذكر الله عز وجل والصلة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله  قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه"( )
بالله عليكم هل فى لغة البشر ما نستطيع أن نعبر به عن هذه الحكمة والرحمة؟! كلا  ألا فلندع المشهد يحدث عن جلاله وروعته بنفسه !!
ومن الحكمة إلى الرحمة  فإن الغلطة أو القسوة تفسد ولا تصلح  وتهدم ولا تبنى والذى لا يرى الناس إلا بعين الاحتقار والازدراء ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم  ينبغى أن يعلم جيداً "أنه أعجز شئ عن حفظ نفسه وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول له إلا بربه – جل وعلا – وأن قَلْبه كريشة مُلقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يميناً وشمالاً وأنه كراكب سفينة فى البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج، ترفعها تارة وتخفضها تارة أخرى ، تجرى عليها أحكام القدر ، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهما أدنى إليه من شِراك نَعْلِه كشاةٍ مُلقاةٍ بين الذئاب والسباع لا يردها عنها إلا الراعى فلو تخلى عنها طَرْفة عين لتقاسموها أعضاءاً  ينبغى أن يعلم أنه يفتقر افتقاراً تاماً إلى ربه ووليه – جل وعلا – ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعادته فى الدنيا والآخرة"( )
ومن ثم  يستحضر فضل الله عليه فى كل لحظة  فى كل حركة وسكنة لهو الذى اختاره وعلمه وأعانه ووفقه وأعزه بالدعوة إليه وإلى دينه  لذا ينبغى أن يكون كالطبيب الذى ينظر إلى مريضه نظرة إشفاق ورحمة لا نظرة ازدراء واحتقار وإلا فهل سمعنا أن طبيباً طرد مريضة من عيادته لأنه مريض ؟!
"إن الناس فى حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ودَّ يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم  فى حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم  ولا يعنيهم بهمَْه  يجب على الداعية أن تتوفر فيه الطبيعة الخيرة الرحيمة الهينة اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتآلف حولها النفوس  يجب على الداعية أن يكون رحيماً بمن معه ليناً لهم ولو كان فظاً غليظ القلب ما تآلفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله النفوس  ولاشك أن الصبر والتسامح والاستعلاء على رغبة النفس فى مقابل الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة فتنقلب من الخصومة إلى الولاء ومن الجماح إلى اللين  وينقلب الهياج إلى وداعة والغضب إلى سكينة والتبجح إلى حياء ، على كلمة طيبة ونبرة هادئة وبسمة حانية فى وجه هائج غاضب ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إننى من المسلمين ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولىُ حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم( ) فدرجة دفع السيئة بالحسنة والسماحة التى تستعلى على دفعات الغيظ والغضب والتوازن الذى يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى درجة عظيمة وعالية إلى حد أن الرسول  وهو الذى لم يغضب لنفسه قط وإذا غضب لله لم يقم لغضبه أحد قيل له وقيل لكل داعية فى شخصه وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فالغضب قد ينزع ويُلقى فى الروع قلة الصبر على الإساءة وحينئذ تكون الاستعاذة بالله جل وعلا هى الوقاية  فَغضبَةَ الداعية الصادق يجب أن تكون لربه جل وعلا وحده حين يُستباح حلاله سبحانه وتنتهك حرماته  فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضى سعة صدر وسماحة طبع ويسراً وتيسيراً ولكن من غير تهاون ولا تفريط فى دين الله وهذا التفريق يحتاج إلى حكمة كبيرة ووعى ثاقب وبصيرة نيرة حتى لا تختلط الأوراق"( )
الداعية الرحيم هو الذى يُصاب بالحسرة والألم حيــن يرى الناس يعرضون عن دين الله ويشردون عن الحق ويصدون عن سبيل الله فيدنو منهم ليأخذ بأيديهم إلى الحق والهدى والنور وفى الحديث أن النبى  قال: "من لا يرحم الناس لا يرحْمهُ الله"( )
ولقد امتن الله جل وعلا على سيد الدعاة وإمام الأنبياء  بقوله : فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظَّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين( )
وينبغى أن يقف الدعاةُ طويلاً أمام هذه الآية الكريمة "فإذا كانت خشونة الكلام وغلظة القلوب مما يجعل الناس يفرون وينفرون من أكرم الأولين والآخرين على الله تعالى وحبيب رب العالمين  – إن وجدتا فيه – فكيف بمن عداه إذا كان فظَّاً غليظ القلب؟!"( )
وفى الحديث الصحيح الذى رواه مسلم عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله  قال: "يا عائشة إلا إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه"( )
وأسوق هنا مشهدين كريمين لرسول الله  تتألق فيهما الرحمة تألق الشمس فى ضحاها!!
الأول: لشاب تجرى حرارة الشباب فى عروقه جاء النبى  ليسأله شيئاً !! فهل يا ترى جاء ليسأله مالاً ؟
أو هل جاء ليسأله أن يدعو الله له ؟
أو هل جاء ليستأذنه فى الجهاد فى سبيل الله ؟
كلا  وإنما جاء ليستأذن رسول الله  فى "الزنا"  أجل فى الزنا !!!
فانظروا كيف كان الرحمة المهداة والنعمة المسداة مع هذا الشاب الجرئ !!
هل سَْبهَّ ؟
هل زجره ونهره ؟
هل عنفه ووبخه وأمر به ليُحمل من الأيدى والأرجل ليلقى به بعيداً بعيداً ؟
لا ورب الكعبة  فماذا قال نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعين الرفق واللين؟ بأبى هو وأمى 
ها هو الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – يروى لنا الحديث فى مسنده عن أبى أمامة  فيقول: إن فتى شاباً أتى النبى  فقال: يا رسول الله أئذن لى بالزنا
فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا : مه مه
فقال : "أدنه"
فدنا منه قريباً فجلس
قال -  - : "أتحبه لأمك" ؟
قال: لا والله جعلنى الله فداءك
قال -  - : "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم"
قال - - : "أفتحبه لابنتك"
قال : لا والله يا رسول الله جعلنى الله فداءك
قال - - : "ولا الناس يحبونه لبناتهم"
قال - - : "أفتحبه لأختك"؟
قال: لا والله جعلنى الله فداءك
قال - - : "ولا الناس يحبونه لأخواتهم"
قال -  - : "أفتحبه لعمتك" ؟
قال : لا والله جعلنى الله فداءك
قال - - : "ولا الناس يحبونه لعماتهم"
قال - - : "أفتحبه لخالتك" ؟
قال : لا والله جعلنى الله فداءك
قال - - : "ولا الناس يحبونه لخالاتهم"
قال : فوضع النبى - - يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه" فلم يكن الفتى بعد ذلك يلتفت إلى شئ"( )
المشهد الثانى:
رحمته  مع سلمة بن صخر الأنصارى  كما ورد فى الحديث الذى رواه أبو داود والترمذى والدارمى وغيرهم وفيه: "ظاهرت من امرأتى حتى ينسلخ شهر رمضان وأخبر النبى  أنه أصاب فيه فأمره بالكفارة"
وفى رواية : قال سلمة : فلما أصبحت غدوت على قومى فأخبرتهم خبرى وقلت لهم: انطلقوا معى إلى النبى  فأخبره بأمرى
فقالوا: لا والله لا نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا قرآن أو يقول فينا رسول الله   مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك قال: فخرجت فأتيت النبى فأخبرته خبرى فقال النبى - - "أنت بذاك" ؟
فقلت : أنا بذاك( )
فقال : "أنت بذاك" ؟
فقلت : أنا بذاك
فقال: "أنت بذاك" ؟
فقلت : نعم ، ها أنذا فأمض فىَّ حكم الله عز وجل فإنى صابر له
فقال النبى - - : "اعتق رقبة"
قال – سلمة - : فضربت صفحة رقبتى بيدى وقلت: لا والذى بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها
قال - - : "فصم شهرين"
قال : قلت يا رسول الله وهل أصابنى ما أصابنى إلا فى الصيام
قال - - : "فتصدق"
قال : فقلت والذى بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاء ما لنا عشاء
قال - - : "اذهب إلى صاحب صدقة بنى زريق فقل له : فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً من تمر ستين مسكيناً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك"
قال : فرجعت إلى قومى فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأى ووجدت عند رسول الله  السعة والبركة ، قد أمر لى بصدقتكم فادفعوها لى فدفعوها إلىَّ"( )
بالله ما أرحمه وما أحلمه وما ألطفه !! - - فإن الخطأ الذى وقع فيه سلمة ليس هينا ولكنه وقع فيه لضعفه البشرى من غير عناد ولا استخفاف بحدود الله جل وعلا وجاء تائباً نادماً مقبلاً على الله صابراً على ما يقيمه عليه رسول الله من حد  كما فى قولته الطيبة "ها أنذا فأمض فى حكم الله عز وجل فإنى صابر له" هكذا كان قلب سيد الدعاة  وهكذا كانت حياته وأخلاقه مع الناس وما ضاق صدره بضعفهم البشرى، ووسعهم حلمه وعطفه ووده الرحيم الحنون الكريم  لأن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة بل هى إلى الرحمة والحنان والصفح والعفو أدنى منها إلى البغض والحقد والانتقام
ولكن قد تأخذ الرحمة الحقيقية – أحياناً – شكل القسوة وليست كذلك البتة
فالطبيب مثلاً عندما يتقدم لإجراء عملية جراحية لمريضه ، يستخدم مبضعه لتمزيق اللحم وقد يضطر أحياناً لبتر عضو من أعضاء هذا المريض ولكن مع ذلك فهى رحمة كبيرة لأنه يبتر عضواً قد يكون سبباً فى هلاك جميع الأعضاء !!
وكذا قد يستدر العطف والشفقة والرحمة هذا الجانى الذى تعدى حداً من حدود الله جل وعلا وهو متقدم ليقام عليه حدُّ الله  ولكن عينُ الرحمة للإنسانية أن تستأصل نواة البشر فى مهدها لتعيش الجماعة هادئة آمنة مطمئنة  لأنه لو ترُك الجانى وأرخى له العنان فسوف يؤدى ذلك حتماً إلى انتشار الجريمة بكل صورها وإلى تفاقم الشر والاستهتار بحرمات الناس وتموت الفضيلة وتنهار الأخلاق وحينئذٍ يذهب الفرد وتنهار الجماعة وليست الأمة سوى مجموعة أفراد !!
ومن ثم قال اللطيف الخبير العالم بخلقه: ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون
وبعد  فإذا كانت الرحمة بالكلاب تغفر ذنوبَ البغايا فكيف تصنع الرحمة بالموحدين من أصحاب الحسنات والخطايا !!
أجل  ألم يقل الصادق المصدوق : "بينما كلب يطيف برَّكيَّة (أى ببئرٍ) قد كاد يقتله العطش إذ رأته بَغِيِّةُ من بغايا بنى إسرائيل فنزعت موقها (أى خُفَها) فاستقت له به فسقته إياه فغُفر لها به"( )
ومن الحكمة والرحمة إلى التواضع
فمن المزالق الخطيرة أن ينظر داعية إلى من يدعوهم نظرة المستعلى وأن يكلمهم كلام المترفع  وكأن لسان حاله يقول لهم:
أنا العالم وأنتم الجاهلون !!
أنا الطائع وأنتم المذنبون !!
أنا التقى وأنتم الفاسقون !!
أنا المتبع وأنتم المبتدعون !!
أنا المهتدى وأنتم الضالون !
ألا تذكر – جميعاً – قول الله جل وعلا : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا وقوله سبحانه : بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين
فمهما أظهر الداعية من حكمة ورحمة ولم يتوج هذا بتاج التواضع فحتماً ستنصرف من حوله القلوب لأن النفس البشرية تنفر من الكبر وتبغض المتكبرين ومن يطلب العزة فى الكبر كمن يطلب الماء من النار !!
فما هو التواضع إذن ؟
"هو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق حتى لا يرى له على أحد فضلاً ولا يرى له عند أحدٍ حقا"( )
"وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع ؟ فقال: يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله"( )
فليحذر الداعية أن يرى لنفسه – بدعوته – حقاً على الله جل وعلا  فلن يدخل الجنة أحد بعمله إلا أن يتغمده الله جل وعلا برحمته
كما أخبرنا حبيب رب العالمين فى الحديث الصحيح فقال: "سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدُخل أحدَكم عملهٌ الجنَّة وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"
وفى رواية أخرى : "قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتَغَمَدنَى الله بمغفرة ورحمة"( )  فيجب على الداعية أن يخلص لله جل وعلا فى دعوته إخلاصاً تتوارى معه ذاته
وليحذر الداعية أن يرى لنفسه فضلاً على الناس  ولكنه فى كل نفس من أنفاس حياته بالإسلام مدين لصاحب الفضل والمنة جل وعلا  أجل فمن الذى اختاره مسلماً وشرفه بالتوحيد وأنزل له القرآن وأرسل إليه أعظم رسله محمد ؟
ومما زادنى فخــراً وتيها وكدت بأخمصى أطأ الثريا
دخولى تحت قولك يا عبادى وأن صبرت أحـمد لى نبيّا
ومن الذى علمه وفهمه ووفقه وأعانه وهو الذى يؤجره ؟
إنه الله جل جلاله صاحب الفضل كله وبيده الأمر كله  فليسجد الداعية إلى ربه شاكراً منكسراً ذليلاً ضارعاً إليه أن لا يكله لنفسه طرفة عين فيهلك وأن يثبتًّ قلبه على الحق فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء وإنما الأعمال بالخواتيم  ختم الله لنا ولكم جميعاً بالتوحيد والإيمان إنه ولى ذلك ومولاه وهو على كل شئ قدير
وليحذر الداعية أن يزكى نفسه أو علمه أو دعوته فالذى يعلم القلوب ويطلع على الغيوب ويعلم السر وأخفى هو العليم الخبير جل وعلا الذى أمرنا بذلك فقال: ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى
لأن العُجب مدخل خطير من مداخل الكبر والعياذ بالله قد يزل فيه بعض الدعاة ظنَّاً منهم أنه لابد للعالم أو الداعية من هيبة تعلوه ولكن شتان شتان بين الهيبة وبين العُجب والكبر !!
فالمهابة كما يقول العلامة ابن القيم – رحمه الله تعالى – أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله ومحبته وإجلاله فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور ونزلت عليه السكينة، وأُلبس رداء الهيبة فأخذ بمجامع القلوب محبة ومهابة ، فحنت إليه الأفئدة وقرت به العيون؛ وأنست به القلوب فكلامه نور ومدخله نور ومخرجه نور وعلمه نور وإن سكت علاه الوقار وإن تكلم أخذ بالقلوب والأسماع وأما الكبر فأثر من آثار العجب والبغى من قلب قد امتلأ بالجهل والظلم ، ترحلت منه العبودية ونزل عليه المقت فنظره إلى الناس شزر ، ومشية بينهم تبختر ، ومعاملته لهم معاملة الاستيثار لا الايثار ولا الإنصاف ، ذاهب بنفسه تيهاً ، لا يبدأ من لقيه بالسلام ، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ فى الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه ولا يسعهم خلقه ولا يرى لأحد عليه حقاً ويرى حقوقه على الناس ولا يرى فضلهم عليه ويرى فضله عليهم ، ولا يزداد من الله إلا بعداً ولا من الناس إلا صغاراً ، وبغضاً اهـ( )
فليحذر الداعية من استعظام عمله – أياً كان – حتى لا يظن أن عمله أو دعوته جعلت له عند الله موضعاً وأنه قد استوجب بها الجزاء منه جل جلاله فهذا من الهلاك الذى حذر منه رسول الله  فى قوله : "ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه"( )
وما أطيب قول الإمام ابن الجوزى – رحمه الله تعالى – إذا تَّم علمُ الإنسان لم ير لنفسه عملاً ولم يعجب به لأشياء منها أنه وفق لذلك العمل وحبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم ومنها أنه إذا قيس بالنعم لم يف بمعشار عشرها  ومنها أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم احتقر كل عمل وتعبُدٍ هذا إذا سلم من شائبة وخلص من غفلة ، فأما والغفلات تحيط به فينبغى أن يغلب الحذر من رده ويخاف العقاب على التقصير فيه فيشتغل عن النظر إليه ، وتأمَلْ على الفطناء أحوالهم فى ذلك  فالملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون قالوا: ما عبدناك حق عبادتك  والخليل عليه الصلاة والسلام يقول: والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين وما دَّل بصبره على النار وتسليمه الولد إلى الذبح  ورسول الله  يقول : "ما منكم من ينجيه عمله قالوا ولا أنت قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته"  وعمر يقول : لو أن لى طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه وهذا شأن جميع العقلاء  اهـ( )
فيا أيها الداعية الحبيب : اذكَّرُ نفسى وإيَّاك
أحسن أخــلاق الفتى وأتمها تواضعـــه للناس وهو رفيع
وأقبح شئ أن يرى المرء نفسه رفيعاً وعند ربَّ العالمين وضيع
وفى الحديث الذى رواه مسلم عن عياض بن حمار –  – قال: قال رسول الله : "إن الله أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد"( )
وكما ختمنا الحديث عن الزادين السابقين بدروس عملية من استاذ البشرية ومعلم الإنسانية  فلنختم الحديث عن هذا الزاد أيضاً – زاد التواضع – ببعض مواقف سيد المتواضعين عليه صلوات رب العالمين
فعن ابن عباس – رضى الله عنهما – أنه سمع عمر بن الخطاب –   - يقول على المنبر: سمعت النبى  يقول: "لا تُطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"( )
وعن أنس بن مالك  قال: "إن ناساً قالوا : يا رسول الله ويا خيرنا وابن خيرنا ، ويا سيدنا وابن سيدنا فقال رسول الله  : "السَّيَّدُ الله" قالوا: أنت أفضلُنا فضلاً وأعظُمنا طَولاً فقال: "يا أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان إنى لا أريد أن ترفعونى فوق منزلتى التى أنزلنيها الله تبارك وتعالى أنا محمد بن عبد الله عبدُ الله ورسوُله"( )
وأختم بهذا الموقف الذى يتألق روعة وسمواً وجلالاً وتواضعاً  فعن أبى مسعود   قال: أتى النبى  رجل فكلمه فجعل تَرْعدُ فراِئصُه فقال له النبى : "هَوَّنْ عليك فإنى لست بملك إنما أنا ابن امرأة كانت تأكد القديد"( )
هذه هى أخلاق الداعية وهذه هى سماته  حكمة ورحمة وتواضع
وبعد  فهذا هو زادنا الثالث  ولكن المهمة ليست يسيرة  والرحلة على طريق الدعوة ليست قصيرة  ألم أقل لكم : إنه طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله أجمعين !!
أجل ، فسوف تصادفنا عقبات  وتزعجنا مشكلات  وتعكر صفونا خلافات !!! فليكن زادنا فى هذه المرحلة الذى ينير لنا فى الظلمات  ويفرق لنا بين المتشابهات  ويضئ لنا مفارق الطرقات  ونتعالى به على جميع الأهواء والخلافات  هو: التجرد والعدل والانصاف  فإلى الخاطرة العاشرة




الخــاطرة العاشرة
وزادنا الرابع  تجرد وعدل وإنصاف

إنَّ الحركة الإسلامية المعاصرة فى حاجة ماسة فى هذه الظروف الراهنة إلى "قلوب متحركة لله تعالى" لا تنظر إلى متاع دنيوى حقير زائل ، ولا تعمل من أجل الزعامة أو القيادة أو الصدارة أو من أجل الجماعة التى تنتمى إليها ولو كان ذلك على حساب المنهج الصحيح
إن الحركة الإسلامية المعاصرة فى أمس الحاجة إلى هذه القلوب المتجردة التى لا يهمها على لسان من ستكون كلمة الحق مادامت كلمة الحق ستُقال  ولا يزعجها أبداً أين مكانها على طريق الدعوة الطويل  هل هى فى الصدارة فى صفوف القادة أم فى صفوف الجنود ، ما دامت فى الميدان تعمل خالصة لله جل وعلا
أجل  إن الحركة فى أمس الحاجة إلى هذا الطراز من الدعاة من أصحاب هذه القلوب المتجردة  الذين يُقْدمًون حينما يحجمُ الآخرون  ويصبرون ويثبتون عندما يجزع الآخرون  ويحلمون عندما يجهل الآخرون  ويغفرون ساعة يخطئ فى حقهم الآخرون  ولا يثأرون لأنفسهم وذواتهم عندما يسئ إليهم الآخرون
فالداعية الصادق هو الذى يكون – دوماً – عبداً لله  لا عبداً لذاته ولا لهواه ويتحرك بدعوته خالصة لله جل وعلا قائداً كان أو جندياً دون تطلع إلى زعامة أو دنيا أو متاع
ويزداد الأمر خطراً إذا علمنا أن أول من تُسعرَّ بهم النار يوم القيامة هم أهل الرياء والكذب على الله الذين يزينون للناس فى الدنيا أنهم لا يتحركون حركة إلا من أجل شهواتهم وأهوائهم وذواتهم  فاستحقوا النار حتى ولو كان فيهم العِالم المعلم والمنفق الباذل والمجاهد المقاتل !!
لأن هؤلاء ما كانوا عبيداً لله جلَّ وعلا  بل كانوا عبيداً لأنفسهم وذواتهم وشهواتهم الخفية ، وفى الحديث الذى رواه البخارى عن أبى هريرة  أن النبى  قال: "تعس عبدُ الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطى رضى وإن لم يُعط سخط ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتُقش ، طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه فى سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان فى الحراسة كان فى الحراسة وإن كان فى الساقة كان فى الساقة وإن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع"( )
ونقل الحافظ ابن حجر فى تعليقه على هذا الحديث الكريم قول ابن الجوزى: والمعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو"( ) اهـ
فهو متجرد فى عمله لله جلَّ وعلا لا يريد إلا إياه ولا يبتغى إلا رضاه  ومن ثمَّ فلا يعنيه فى أى موقع سيكون  ولا فى أى الخنادق سيقاتل لأنه لا يريد تلميعاً سياسياً ولا إعلامياً  وما أجَّله من هدف  وما أعظمها من غاية  وتالله ما انتصر الإسلام فى جميع معاركه إلا بمثل أصحاب هذه القلوب الحية النقية المتجردة لله جل وعلا التى لا تبتغى بعملها إلا وجهه عز وجل
ويقفز إلى ذهنى الآن مشهدُ يتألقَّ سمواً وروعة وجلالاً  ذلكم المشهد المهيب الكريم الذى يعلمه لنا أبو سليمان سيف الله المسلول خالد بن الوليد  وأرضاه ذلكم القائد الذى حيَّر القادة فى ساحة الوغى وميادين البطولة والفداء  ذلكم القائد الذى هابه الأبطال والفرسان  ذلكم القائد الذى لم يهزم بإذن الله فى معركة قط  وها هو يتنازل – بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  – عن القيادة فى غاية الحب والرضى لأخيه أمين هذه الأمة أبى عبيدة بن الجراح ليتحول خالد على الفور إلى جندى مخلص فى صفوف الجنود بعد أن كان قائداً بالأمس وليصبح جندياً مطيعاً بعد أن كان قائداً مُطاعاً ، فليس الهدف من الذى يرفع الراية ، ولكن الهدف أن تظل الراية خفاقة عالية ، مرفوعة دائماً سواء رفعها خالد أو أبو عبيدة  جميعاً ، بالله هل فى لغة البشر ما نستطيع أن نعبر به عن تجرد وصفاء ونقاء وإخلاص هؤلاء الاطهار الذين رباهم سيد الرجال محمد ؟!!
إن قادة العمل الإسلامى بصفة خاصة وشباب الصحوة بصفة عامة فى أشد الحاجة إلى هذا الدرس العملى الكبير لنجرد دعوتنا وأعمالنا لله جل وعلا ، تطبيقاً عملياً لقول الله عز وجل: قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين( )
ومن أروع صور التجرد لله جلَّ وعلا ، العدل والإنصاف فى التعامل والحكم على الآخرين حتى وإن كانوا لك من المخالفين
وهذا من أعظم أنواع الزاد الذى نقدمه اليوم لأبناء الصحوة المباركة ، امتثالاً عملياً لأمر الحق جلَّ وعلا: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون( )
"فالإسلام يُوجب على المسلم أن يكون عدلاً مع من يحب ومن يكره ، يقوم لله شهيداً بالقسط ولو على نفسه ، ولا يخرجه غضبه عن الحق ولا يدخله رضاه فى الباطل ولا تمنعه الخصومة من الشهادة لخصمه بما فيه من خير"( )
"فلا عذر لمؤمن فى ترك العدل وإيثاره على الجور والمحاباة وجعله فوق الأهواء وحظوظ الأنفس وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما ، فلا يتوهمن متوهم أنه يجوز ترك العدل فى الشهادة للكافر أو الحكم له بحقه على المؤمن ، فلم يكتف – رب العزة جل وعلا – بالتحذير من عدم العدل مهما كان سببه والنية فيه ، بل أكد أمره بقوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى أى قد فرضت عليكم العدل فرضاً لا هوادة فيه اعدلوا هو – أى العدل المفهوم من اعدلوا – أقرب لتقوى الله أى لاتقاء عقابه وسخطه باتقاء معصيته وهى الجور الذى هو من أكبر المعاصى لما يتولد منه من المفاسد: واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ، أى لا يخفى عليه تعالى شئ من أعمالكم ظاهرها وباطنها ولا من نياتكم وحيلكم فيها وهو الحكم العدل القائم بالقسط فاحذروا أن يجزيكم بالعدل على ترككم العدل فقد مضت سنته العادلة فى خلقه بأن جزاء ترك العدل وعدم إقامة القسط فى الدنيا هو ذل الأمة وهوانها واعتداء غيرها من الأمم على استقلالها ولجزاء الآخرة أذل وأخزى وأشد وأبقى"( )
ومن ثم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ومن أمور الناس إنما تستقيم فى الدنيا مع العدل الذى قد يكون فيه الاشتراك فى بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم فى الدنيا مع الظلم فى الحقوق وإن لم يشترك فى إثم ولهذا قيل: إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة ويُقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام ، وذلك أن العدل نظام كل شئ فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها فى الدين من خلاق ومتى لم تُقم بالعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به فى الآخرة"( )
ونحن نعيش عصراً عزَّ فيه العدل والإنصاف – إلا من رحم ربك – واُتبع فيه الهوى الذى يصمُّ الآذان عن سماع الحق ويعمى الأبصار عن رؤية الدليل ، ويُضل أصحابه عن سواء السبيل !!
ومما يؤلم القلب أننا نرى من بين أبناء الحركة الإسلامية من يغفل عن هذا الميزان الحق فيميل فى أقواله وأفعاله وتعاملاته وأحكامه عن العدل والحق فقد يتغاضى عن أخطاء جماعته التى ينتمى إليها ويغض الطرف عن أخطاء شيخه الذى يأخذ عنه العلم، بل وقد يحاول تبرير هذه الأخطاء ، ومنهم من يوصلها – أحياناً – إلى محاسن!!!
فجماعته هى جماعة المسلمين  وهى وحدها التى تسير على الحق  وما عداها من الجماعات فهى على الباطل !! ومن ثمَّ فكل ما تقول به جماعته فهو الصحيح- حتى وإن خالف الدليل – وكل ما تفعله جماعته فهو شرعى ، وكل ما يصدر عنها اجتهادات نظرية أو حركية فهو صواب !!
أما شيخه أو إمامه فهو لا يقبل فيه البتة نقداً ولو كان هادفاً أو بنَّاءً ولا يقبل لقوله مراجعة فهو الأوسع علماً والأنصع حجة الأقوى دليلاً حتى وإن لم يكن لديه دليل يقنع ولا علم يشبع !!
فإن قال شيخُه صار قوله حجةً لا ينبغى أن تُناقش ، وإن أصدر فتوى صارت فتواه ملزمة لا ينبغى أنْ ترد ، بل ويوالى ويعادى عليها ، مع أن الله جلَّ وعلا ما تعبدنا بقول فلان أو فلان من الأئمة والعلماء وإنما تعبدنا الله جلَّ وعلا بما جاء فى كتابه وما صحَّ عن رسوله 
ومن أروع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – فى هذا ، قول: "فإن أكثرهم قد صار لهم فى ذلك هوىً أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نُسب إليهم ، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هى العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه ويرضون عَّمن يوافقهم وإن كان جاهلاً سئ القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضى هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذّموا من لم يذمه الله ورسوله ، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفّار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس( ) اهـ
ثم يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – فى موضع آخر: "ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين  كالرافضى الذى يتعصب لعلى –   – دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة –  – وكالخارجى الذى يقدح فى عثمان وعلىَّ – رضى الله عنهما – فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذى بعث الله به رسوله ،   فمن تعصَّب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء سواء تعصب لمالك أو الشافعى أو أبى حنيفة أو أحمد أو غيرهم اهـ( )
وفى المقابل قد نرى من بين من يزكون جماعتهم التى ينتمون إليها وشيوخهم الذين يتلقون عنهم قد نرى منهم من إذا أبغض جماعة أخرى  أو شيخاً آخر جرد هذه الجماعة من كل خير وجرد هذا الشيخ من كل فضل ولا يسلط الضوء إلا على سقطاته وزلاته وقد ينطلق ليشنع بها ويدق بها الطبول ، علماً بأن الكمال لله وحده والعصمة لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد قيل: كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه !!
وأحسن الله إلى من قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تُبدى المساويا
وبالطبع لم يقف هذا الخلل الفكرى والقصور المنهجى عند هذا الحد فحسب ، بل تعدَّاه إلى ما كنَّا نخافه ونخشاه من وقوع التنازع والتباغض والتقاطع بل والعداء بين أبناء الحركات الإسلامية التى تعمل فى الساحة  وهذا واقع مرُ أليم مشاهد محسوس لا ينكره إلا من حبس نفسه فى مكتب مكيف أو جلس ينظَّرُ للحركة من برج عاجى!!
ومن ثمَّ  فإن أبناء الحركة الإسلامية بجميع فصائلها فى أمس الحاجة فى هذا الظرف الحرج إلى أن تتزوَّد لهذا الزاد الجليل العظيم  التجرد والعدل والإنصاف والرجوع الصادق العملى إلى منهج سلفنا الصالح فى الحكم والتعامل مع الآخرين حتى وإن كانوا من المخالفين
ونستطيع أن نقَّعد بعض القواعد الكلية لهذا المنهج القويم  لتكون ميزاناً دقيقاً لأقوالنا وأفعالنا وأحكامنا وسائر معاملتنا  ومنها ما يلى:
القاعدة الأولى: التورع فى القول:
وهذه قاعدة جليلة الشأن قل من يتنبه إليها ، ولا شك أن التورع فى القول ثمرة من ثمار المراقبة والخوف من الله جلَّ وعلا ، وهى مرتبة أشد من التورع عن الذهب والفضة  كما يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
"ومن العَجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويعصب عليه التحفظ من حركة لسانه !! حتى يرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يُلقى لها بالاً ينزل منها أبعد مما بين المشرق والمغرب  وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفرى فى أعراض الأحياء والأموات لا يبالى ما يقول!! ( )"
أجل  فكم من الناس يتجرَّأ على إصدار الأحكام على الآخرين دون ورع أو تبينَّ أو تثبت فيجرِّح فلاناً ويعدَّل فلاناً وليته عالم من علماء الجرح والتعديل أو ليته ألمَّ على الأقل بقواعد هذا العلم حتى لا يقع فى جور وظلم بل ومن الناس من تجاوز هذا بجرأة متناهية فجلس يكفر هذا وهذا ويحكم لهذا بالجنة ولهذا بالنار !!
وهذا رد فعل طبيعى حينما تتفلت الألسنة من قيودها الشرعية وحدودها المرعية التى حدَّها ربنا عز وجل وبينها نبيه  ولو تأمَّل العاقل فى بعض ما ورد من النصوص التى وردت بشأن خطورة الكلمة لتوقف ألف مرة قبل أن ينطق بالكلام ويرمى به هنا وهناك ، وإليك بعضها:
يقول الله عز وجل: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد( )
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة  أن النبى ، ، قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"( )
وفى حديث معاذ بن جبل الطويل أن النبى قال لمعاذ : "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟"
قلت: بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ثم قال: "كُفّ عليك هذا"
قلت: يا نبى الله وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلَّم به : فقال: "ثكلتك أمك وهل يكبُّ الناسَ فى النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"( )
وفى الصحيحين عن أبى هريرة  عن النبى  قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها فى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب"( ) ، وفيهما عنه أيضاً أن النبى  قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها فى الجنة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوى بها فى جهنم"( )
وكان سلفنا الصالح – رضوان الله عليهم – يعرفون خطورة الكلمة وحصائد الألسن حتى: "إن عمر بن الخطاب  دخل يوماً على أبى بكر الصدِّيق  وهو يحبذ لسانه فقال عمر: مَهْ؟ غفر الله لك فقال له أبو بكر: إنَّ هذا أوردنى الموارد"( )
وما أدق ما قاله العلاّمة ابن دقيق العيد – رحمه الله تعالى -: أعراض الناس حفرة من حفر النار وقف عليها المحدثون والحكَّام( )
فعلى كل مسلم أن يتأمَّل كثيراً قبل أن يقدم على الكلام فى الآخرين وأن يسأل نفسه بصدق ما سيكون جوابى عند الله تعالى يوم القيامة إذا سألنى جلَّ وعلا لماذا قلت فى فلان كذا وكذا ؟ وما الذى دفعك إلى هذا ؟
هل هو الإخلاص والنصح الصادق لله ورسوله  وللمسلمين ؟ أم لهوى ، أو لحسد أو لبغض أو لغير ذلك فلتكن – أخى الحبيب – على حذَّر واعلم بأن الله جلَّ وعلا يعلم السر وأخفى
القاعدة الثانية : التجرد عن الهوى:
والهوى من النوازع الخفية التى تتسلل إلى القلب تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر وحينئذٍ تنقلب موازينه ومن ثم يُحذِّر الله تعالى نبياً كريماً من أنبيائه – عليهم صلوات الله وسلامه – من هذا المرض الخطير والداء الكبير ، فيقول سبحانه وتعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحقَّ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب( )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى : "وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمّه فلا يستحضر ما لله ولرسوله فى ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ولرسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذى يرضى له ويغضب له أنه السَّنة وأنه الحق وهو الدين فإذا قُدَّر أن الذى معه هو المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هى العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهداً فى سبيل الله فكيف إذا كان الذى يدعى الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة؟"( )
والله إنها كلمات تحتاج من أبناء الصحوة وقفة متأنَّية طويلة صادقة فهى تعدَّ أصلاً من أصول التقويم والحكم على الآخرين ، والله دره حينما يعلمنا أنه حتى ولو كان رأى الإنسان صحيحاً ولكنه لم يقصد به وجه الله تعالى ولم يرد به النصح للمسلمين فإنه مأزور غير مأجور  فكيف إذا كان حال هذا الذى يحكم على غيره كغيره معه حق وباطل وسنة وبدعة !!!
ويقول تلميذه ابن القيم – رحمه الله – "وعلى المتكلم فى هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق وغايته النصيحة لله ولكتابة ولرسوله ولإخوانه المسلمين وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق ، قال تعالى: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن( ) فالعلم والعدل أصل كل خير والظلم والجهل أصل كل شر والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم فقال تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير( ) اهـ( )
فيجب أن تكون أقوالنا وأحكامنا بعلم وعدل وأن يكون حبنا ونفورنا بعلم وعدل لا لمجرد اتباع الهوى الذى بذر فى الصفوف بذور الشقاق والبغضاء والتنازع والخلاف وما أحوج الحركة الإسلامية فى هذه الظروف إلى هذا الزاد العظيم إلى التجرد عن الهوى فى الأقوال والأعمال والأحكام والتقييم وغيرها ليكون العمل خالصاً لله مقبولاً امتثالاً عملياً لأمر الله جل وعلا: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين( )
وكان من سلفنا الصالح من يقول: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا قد أعمته دنياه"
ومن أجمل ما قاله الإمام العلم ابن ناصر الدين الدمشقى: "هيهات هيهات ، إن فى مجال الكلام فى الرجال عقبات ، مرتقيها على خطر ومرتقيها هوى لا منجى له من الإثم ولا وَزَر فلو حاسب نفسه الرامى أخاه : ما السبب الذى هاج ذلك ؟ لتحقق أنه الهوى الذى صاحبه هالك!" ( )
ورحم الله من قال:
وكل امرئ يدرى مواقع رشــده ولكنه أعمى أسيرُ هـــواهُ
يشير عليه الناصحون بجهــدهم فيأبى قبول النصح وهو يراهُ
هوى نفسه يعميه عن قصد رشده ويبصرُ عن فهمٍ عيوبَ سواهُ
لذا حذرَّنا النبى  من هذا الداء المهلك
ففى الحديث الذى رواه الطبرانى فى الأوسط من حديث ابن عمر – رضى الله عنهما – أن النبى  قال: "ثلاث مُهلكات وثلاث مُنجيات وثلاثُ كفَّارات وثلاث درجات فأمَّا المهلكات: فشحُّ مطاع وهوى متبع وإعجابُ المرءُ بنفسه  وأما المنُجيِات: فالعدل فى الغضب والرضا والقصد فى الفقر والغنى وخشية الله تعالى فى السر والعلانية وأما الكفارات : فانتظارُ الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء فى السَّبَراتِ ونقل الأقدام إلى الجماعات  وأما الدرجات فإطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام"( )
وهكذا جعل النبى الهوى سبباً من أسباب الهلاك والعياذ بالله  وفقد يكون الهوى فى العلم فيخرج بصاحبه إلى ضد ما يأمرُ به العلم وقد يكون فى الزهد فيخرج إلى الرياء وهكذا
وهنا قد يسأل المخلصون والصادقون فما العلاج ؟
وكيف يتخلص من ابتُلى بهذا الداء منه ؟
والجواب إليك – أيها الكريم – من الإمام ابن الجوزى – رحمه الله تعالى – فيقول لك: "بالصبر والمجاهدة ويهوِّنهما عدة أشياء منها:
أولاً: التفكر فى أن الإنسان لم يُخلق للهوى
ثانياً : أن يفكر فى عواقب الهوى فكم قد أفات من فضيلة وكم قد أوقع فى رذيلة وكم من مطعم قد أوقع فى مرض وكم من زلة أوجبت إنكسار جاهٍ وقبح ذكرٍ مع إثم !! غير أن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى!
ثالثاً : أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه ثم يتصور الأذى الحاصل عقب اللذة فإنه يراه يرُبى على الهوى أضعافاً
رابعاً : أن يتدَّبر عزَّ الغلبة وذل القهر فإنه ما من أحد هواه إلا أحسَّ بقوة عزٍّ وما من أحد غلبه هواه إلا وجد فى نفسه ذل القهر
خامساً : أن يتفكرَّ فى قائمة المخالفة للهوى من اكتساب الذكر الجميل فى الدنيا وسلامة النفس والعرض والأجر فى الآخرة ثم يعكس فيتفكرَّ لو وافق هواه فى حصول عكس ذلك على الأبد وليفرض لهاتين الحالتين حالتى آدم ويوسف عليهما السلام فى لذة هذا وصبر هذا ! فيا أيها الأخ النصوح أحضر لى قلبك عند هذه الكلمات وقل لى بالله عليك أين لذة آدم التى قضاها من هَمّة يوسف التى ما أمضاها ؟ من كان يكون يوسف لو نال تلك اللذة ؟ فلما تركها وصبر عنها بمجاهدة ساعة صار من قد عرفت"( )
وأختم لك بواحدة أراها أعظم جرعة دواء لهذا الداء
ألا وهى الاستعانة الكاملة بالله جلَّ وعلا الذى لا يخيب أبداً من لجأ إليه صادقاً واستعان به مخلصاً وطلب منه العون والمدد فى أن يعينه على هواه وشهواته ونفسه الأمَّارة بالسوء فإن الفضل كله بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فوالله من توكَّل عليه كفاه ، ومن اعتصم به نجَّاه ، ومن فوَّض إليه الأمر هداه  أجل (أليس الله بكاف عبده) فى الحديث القدسى الجليل (يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم) ( )
لنسأل الله تعالى أن يهدى قلوبنا ويشرح صدورنا ويحفظنا وأياكم من الهوى والزلل إنه ولى ذلك ومولاه
القاعدة الثالثة: تقديم حسن الظن بالمسلمين:
امتثالاً لأمر الله جلَّ وعلا فى هذه الآية العظيمة الجليلة التى تعلم الناس كيف ينظفون ويطهرون مشاعرهم وضمائرهم وأخلاقهم فى أسلوب مؤثرَّ عجيب
يقول سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنَّ بعض الظن إثم
نداء محبب إلى القلوب  يا أيَّها الذين آمنوا لا تتركوا أنفسكم نهباً لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك ، لماذا ؟
إن بعض الظن إثم
وبهذا تطهر هذه الآية وحدها الضمير الحىَّ من داخله حتى لا يتلوَّث بظن سيئ أو شك مدمر  حتى تظل القلوب صافية هادئة لا يعكرها القلق والشك والريبة والظن وحتماً ما أجملها من حياة وما أسعدها من عيشة فى ظل مجتمع تحيا فيه هذه القلوب السليمة الصافية !!
ويأتى الأمر النبوى الكريم مؤكَّداً لهذه المعانى السامية فى هذه الآية الكريمة فيقول : "إياكم والظن فإن الظَّن أكذبُ الحديث "( )
قال علماؤنا: فالظن هنا وفى الآية هو التهمة  ومحل التحذير والنهى إنما هى تهمة لا سبب لها يوجبها ، والذى يميز الظنون التى يجب اجتنابها عما سواها أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح وأونست منه الأمانة فى الظاهر فظُّن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من اشتهر بين الناس بتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث  وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز وأنه لا حرج فى الظن القبيح بمن ظاهره القبح"( )  فالأصل هو إحسان الظن بالمسلمين حتى يتبيَّن خلافه بالدليل القاطع الذى لا شك فيه فكيف يكون الحال مع إخوانك على طريق الدعوة إلى الله جلَّ وعلا  فمن الواقع المر الذى يتذوقه ويسمعه ويراه أى متابع للحركة الإسلامية أن نرى سوء الظن أحياناً يتعدَّىِ إلى النيات كذلك وليس على الأقوال والأعمال فحسب وهذا من الظلم البينِّ فإنَّ السرائر علمها عند الله وحده الذى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ولا يغيب عنه سرُ ولا علانية
القاعدة الرابعة: وجوب العلم والعدل والأنصاف:
فمن تكلم فى غيره بغير علم فقد خالف قول الله عز وجل: ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا( )
ومن تكلم فى غيره بظلم فقد خالف قول الله عز وجل: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( )
فالعلم والعدل أصل كل خير والظلم والجهل أصل كل شر
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: "والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودى أو نصرانى فضلاً عن الرافضى قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق"( )
والعجيب أن شيخ الإسلام لعلمه وعدله وإنصافه كان لا يتردد البتة أن يعترف بفضائل المبتدعة إذا ثبت عنهم ذلك فيقول شيخ الإسلام مثلاً : "وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفّار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفاراً ، وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزواً يظلم فيه المسلمين والكفار ويكون آثماً بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفاراً فصاروا مسلمين وذلك كان شر بالنسبة إلى القائم بالواجب وأما بالنسبة إلى الكفّار فهو خير وأكثر المتكلمين يردون باطلاً بباطل وبدعة ببدعة لكن قد يردون باطل الكفار من المشركين وأهل الكتاب بباطل المسلمين فيصير الكافر مسلماً مبتدعاً وأخص من هؤلاء من يرد البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ببدعة أخف منها منها وهى بدعة أهل السنة"( )
ثم يقول رحمه الله فى موضع آخر: "ولما كان اتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار وأهل البدع بالعلم والعدل لا بالظن وما تهوى الأنفس ولهذا قال النبى : "القضاة ثلاثة: قاضيان فى النار وقاضٍ فى الجنة  رجل علم الحق وقضى به فهو فى الجنة ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو فى النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار"( ) ( ) ومن أجمل ما قاله الإمام الذهبى – رحمه الله تعالى – قوله: "غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية قد ماجت بهم الدنيا وكثروا  وفيهم أذكياء  وعباد وعلماء  نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع ونحب السُّنة وأهلها ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ إنما العبرة بكثرة المحاسن( )
وخذ مثالاً تطبيقياً لهذا المنهج الراشد الذى يعلمنا إياه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم  وهو حكمِ شيخ الإسلام ابن تيمية على الإمام ابن حزم رحمه الله فيقول: وكذلك أبو محمد ابن حزم رحمه الله فيقول: " وكذلك أبو محمد ابن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يُستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره فى مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله فى التفضيل بين الصحابة وكذلك ما ذكره فى باب الصفات فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول: إنه موافق للإمام أحمد فى مسألة القرآن الكريم وغيرها ولا ريب أنه موافق له ولهم فى بعض ذلك لكن الأشعرى ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة فى القرآن الكريم والصفات وإن كان أبو محمد ابن حزم فى مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة فى مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث فى معانى مذهبهم فى ذلك فوافق هؤلاء فى اللفظ وهؤلاء فى المعنى وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له ، كما نفى المعانى فى الأمر والنهى والاشتقاق وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب مضموماً إلى ما فى كلامه من الوقيعة فى الأكابر والإسراف فى نفى المعانى ودعوى متابعة الظواهر وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر ويوجد فى كتبه من كثرة الإِّطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره فالمسألة التى يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء"( )
وهذا تلميذه النجيب الإمام ابن القيم – رحمه الله – فى حكمه على الإمام أبى إسماعيل الهروى الذى ألَّف كتابه فى علم التصوف والسلوك وسمَّاه "منازل السائرين" فشرحه الإمام ابن القيم فى كتابه القيم "مدارج السالكين بين منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين"  وأثنى فيه ابن القيم على أبى اسماعيل الهروى بل وكان يلقبه "بشيخ الإسلام مع أنه قد استدرك عليه مسائل عديدة وتعقبه فى أكثر من موطن وكان يعبر عن ذلك فيقول: شيخ الإسلام – أى الهروى – حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه – أى عن الهروى – عمله خير من علمه وصدق رحمه الله فسيرته بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد أهل البدع : لا يُشقُّ له فيها غبار وله المقامات المشهورة فى نصرة الله ورسوله وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى ( )
ويستدرك ابن القيم عليه خطأ آخر فيقول:
"ولا توجب هذه الزلَّة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم فى طريق السلوك المحل الذى لا يُجهل وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ، والكامل من عُدَّ خطؤه ولاسيما فى مثل هذا المجال الضنك والمعترك الصعب الذى زلت فيه اقدام وضلت فيها أفهام وافترقت بالسالكين فيه الطرقات وأشرفوا – إلا أقلهم – على أودية الهلكات"( )
وهذا الإمام الذهبى يقول عن الإمام أبى حامد الغزالى: "الغزالى إمام كبير وما من شرط العالم أنه لم يخطئ"( ) وقال الذهبى أيضاً: "فرحم الله أبا حامد فأين مثله فى علومه وفضائله ولكن لا ندعى عصمته من الغلط والخطأ ولا تقليد فى الأصول"( )
هذا هو العلم والعدل والإنصاف وحينما تضيع هذه القاعدة الجليلة تكثر الاتهامات وتزيد الافتراءات وتستعر نار الفتنة بين أبناء الحركات الإسلامية ويخيم على العلاقة بين أبنائها التشنج والانفعال والتجريح الذى لا يمكن أبداً أن يؤصل فكراً أو أن يصحح خطأ، أو أن يُعدلِّ مساراً أو يُنجح دعوى فالله الله فى العودة إلى منهج السلف الرشيد بعيداً بعيداً عن القيل والقال والمهاترات والانفعالات والمشاحنات الحزبية الضيقة وهذا مرتقى صعب لا يصل إليه إلا الخُلَّصِ من الرجال الأبرار الذين أنعم الله عليهم بصدق النية ونقاء القلب الذين أخلصوا عبوديتهم لله جل وعلا ، وما أحوج الحركة الإسلامية إلى هذا الطراز من هؤلاء الأطهار الأخيار  أسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم منهم بمنه وكرمه  وأختم هذه القاعدة الكريمة بهذا الحديث النبوى المبارك من حديث عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما أن النبى ، قال : "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا"( )
القاعدة الخامسة: الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات والحسنات والسيئات:
فما من مُسلم إلا وله محاسن ومساوئ ومن الظلم البين أن تذكر من أخيك أسوأ ما تعلم وأن تكتم منه خير ما تعلم والله جلَّ وعلا يقول: ولا تبخسوا الناس أشياءهم( )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – "ويعلمون – أى أهل السنة – أن جنس المتكلمين أقرب إلى المعقول والمنقول من جنس الفلاسفة وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناً كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل الكتابيْن وإن كان يوجد فى أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة لا توجد فى كثير من المنتسبين إلى الإسلام كما قال الله تعالى: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدِّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لايؤدِّه إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون( ) ( )
وفى صحيح البخارى من حديث عمر بن الخطاب  : أن رجلاً كان على عهد النبى  كان اسمه عبد الله وكان يُلقبُ حماراً وكان يضحك النبى  وكان النبى  قد جلده فى الشراب فأوتى به يوماً فأمَرَ به فجُلد فقال رجل من القوم: اللهم العنهُ ما أكثر ما يؤتى به ! فقال النبى : "لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله"( )
فهذا الصحابى  قد زلت قدمه وضعفت نفسه فارتكب كبيرة من الكبائر بل وكررها ولكن لا يعنى هذا أنه قد فسد بالكلية أو أنه قد كفر عياذاً بالله  كما يقول الخوارج الذين يكفرون بالمعصية ، بل إن فيه من الصفات والخصال الحميدة الأخرى التى توجب محبته وموالاته كحب الله ورسوله  كما أخبر رسول الله عليه الصلاة والسلام
وهذا صحابى جليل آخر يزل زلة عظيمة كبيرة عدها الفاروق عمر بن الخطاب   نفاقاً بل وطلب من رسول الله   أن يأذن له فى ضرب عنقه ولكن الرسول  يشهد له بالصدق ويهب هذه النقيصة والزلة الكبيرة لفضله وسبقه وجهاده ويأمرهم أن يذكروا: "حاطب بن أبى بلتعة" بما فيه من خير ففى الحديث الذى رواه البخارى ومسلم وغيرها عن على بن أبى طالب  قال: "بعثنى رسول الله  أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخٍ( ) فإن بها ظعينة( ) معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا:
أخرجى الكتاب ، قالت: ما معى من كتاب قلنا: لُتخْرجَّن الكتاب أو لُتْلقَّين الثياب، فأخرْجتهُ من عقاصها ، قال: فأتينا به النبى فإذا فيه من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناسٍ من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله فقال رسول الله  : يا حاطب ما هذا؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل علىَّ إنى كنتُ امرءاً ملصقاً فى قريش ولم أكن من أنفسهم فكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة بأحببتُ إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم ان أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتى وما فعلت كفراً ولا ارتداداً عن دينى ولا رضى بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله : "إنه قد صدقكم" فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله  : "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ، قال: فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء( )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"فمن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيُحمد ويُذم ، يُثاب ويعاقب ويُحب من وجه ويبغض من وجه ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ، ومن وافقهم"( )
ويؤَّكد الإمام الذهبى هذه القاعدة فيقول: " إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعُلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زللـه ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدى به فى بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك"( )
ويقول الإمام ابن القيم: "ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذى له فى الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يُتبع فيها ولا يجوز أن تُهدر مكانته وإمامته ومنزلته فى قلوب المسلمين"( )
ثم يقول فى المدارج: "فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها"( )
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى إحدى رسائله: "ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبَّين لكم خطؤه ، بل الواجب: السكوت والتوقف فإذا تحققتم الخطأ بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مئة أو مئتين أخطأت فيهن فإنى لا أدَّعى العصمة"( )
ورحم الله سعيدَ بن المسِّيب إذ يقول: "ليس من شريف ولا عالم ولا ذى فضل إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغى أن تُذكر عيوبه فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله"( )
فالزلل والخطأ والنقص صفات ملازمة للبشر وأبى الله تعالى أن يُلبس ثوب العصمة إلا لنبيه  ولو نجا من الخطأ والزلل أحد لنجا منه أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل وهم أصحاب النبى  ومن رحمة الله بهذه الأمة الميمونة أن من اجتهد رأيه فأخطأ فيه فله أجر ومن اجتهد رأيه فأصاب فيه فله أجران – ولاشك أنه لابد أن يكون حتماً من أهل الاجتهاد – كما فى حديث البخارى ومسلم أنه  قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"( )
ومن ثم  فإن تتبع العثرات ، والبحث عن الزلات ، والوقوف عند الهفوات ، وتصيد الأخطاء والهنات  كل ذلك مع التغافل عن جميع الإيجابيات والحسنات دليل على سوء الطوية وفسد المقاصد والنيات !!
وأحذر نفسى وإخوانى من أفراد الحركة الإسلامية من هذا الظلم الذى يكثر وتشم رائحته فى حال الخلاف الحركى والمنهجى  لأننا نرى رائحته فى حال الخلاف الحركى والمنهجى  لأننا نرى من بين أبناء الحركة من يمارس نوعاً من الإرهاب الفكرى بإشهار سيف الطعن والتجريح لكل من يخالفه فى الفكر أو فى المنهج أو فى الجماعة ويصوب إليه سهام الاتهام برقة الدين أو بالجهل أو بإتباع الهوى أو بالنفاق أو بالكفر وأخيراً بالعمل لصالح أجهزة الأمن  هكذا بدون بينة أو تثبت أو تورع وهذا من أخطر الأمراض التى إن لم تتجاوزها الحركة سيعرضها لخسائر كبيرة فادحة  نسأل الله أن يطهر قلوبنا وأن يصلح أعمالنا وأن يجعل سرنا خيراً من علانيتنا إنه ولى ذلك والقادر عليه
القاعدة السادسة: أعرف الحق تعرف أهله:
فإن الحق لا يُعرف بالرجال ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق ، ولا يوجد أحد مهما كان حجة على دين الله عز وجل إلا المعصوم
لأنه مما يؤلم القلب أن نرى من بعض أفراد الحركة الإسلامية تعصباً بغيضاً لبعض الشيوخ أو لبعض الجماعات  أوقع الحركة فى إرباك شديد وحرج كبير وتأخر مرير !!
"وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله  ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه فى كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله  حتى كان صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها  يقول: "أطيعونى ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لى عليكم"( )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا يجب على أحد من المسلمين تقلُيد شخص بعينه من العلماء فى كل ما يقول ولا يجب على أحد من المسلمين التزاُم مذهب شخص معين غير الرسول  فى كل ما يوجبه ويخبر به ، بل كل أحد من الناس يوخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ( )
ثم يقول فى موضع آخر: "والمقصود بهذا الأصل أن من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل فى ذلك وكذلك من دعا إلى إتباع إمام من أئمة العلم فى كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقاً كالأئمة الأربعة"( )
وهذا تلميذه ابن القيم يقول: "اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يُلتفت إلى قول من سواه بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله فهذا والله هو الذى أجمعت الأمة على أنه محرم فى دين الله ولم يظهر فى الأمة إلى بعد إنقراض القروض الفاضلة"( )
وهذا الإمام الشاطبى يبدعُ فى هذا المجال إبداعاً فى كتابه القيم "الاعتصام" فيقول: "ولقد ذل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل  ولنذكر لذلك عشرة أمثلة:
وبعد ما ذكر هذه الأمثلة يقول: "فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعى المطلوب شرعاً ، ضلال ، وما توفيقى إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله  ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علماً يقيناً"( )
ومن نفيس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية قوله: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقة ويوالى ويعادى عليها غير النبى  ولا ينصب لهم كلاماً يوالى عليه ويعادى غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون"( )
وها هم الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء المخلصين يحذرون تحذيراً شديداً من هذا التعصب للأشخاص لا للحق ‍‍
فيقـول الإمام مالك – رحمه الله تعالى -: "إنما أنـا بشر أخطئ وأصيب فانظروا فى رأيى فإن وافق الكتاب والسنة فخذوا به وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه"( )
وهذا هو الإمام الشافعى – رحمه الله – يقول: "ما من أحدٍ إلا وتذهب عليه سنة للنبى أو تعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت فالقول قول رسول الله  وهو قولى وجعل يردد هذا الكلام"( )
وهذا هو الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – يقول: "لا يحل لمن يفتى من كتبى حتى يعلم من أين قلت"( ) وكان يقول: "هذا رأيى وهذا أحسن ما قلت فمن جاء برأى خيرٍ منه قبلناه"( )
وهذا هو الإمام أحمد – رحمه الله – يقول: "لا تقلدونى ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعى ولا الثورى  وكان يقول من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا"( )
وهذا هو الإمام أبو حامد الغزالى – رحمه الله – يقول: "وهذه عادة ضعفاء العقول يعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق والعاقل يقتدى بسيد العقلاء على بن أبى طالب   حيث قال : "لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله"( )
وفى هذه القواعد كفاية إن شاء الله تعالى وأرجو الله أن ينفعنا وإياكم بها إنه ولى ذلك والقادر عليه
وبعد  – أحبتى فى الله – فإن طريق الدعوة مع كل هذا الزاد الذى تزودنا به ليس طريقاً هيناً ليناً  ولكن سيعترض طريقنا – وبشدة – كثير من العقبات والمحن والفتن لأن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان فحسب ولكنه حقيقة كبيرة ذات تكاليف وأمانة عظيمة ذات أعباء ولا يكفى أبداً أن يقول الناس آمنا حتى يتعرضوا للفتن والمحن فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( )  ومن ثم فلابد من الصبر الجميل  وهذا هو زادنا فى الخاطرة المقبلة


الخــاطرة الحادية عشرة
وزادنا الخامس  صبر جميل

إنَّ طريقَ الدعوة إلى الله عزَّ وجل ليس هيناً ليناً  وليس مفروشاً بالزهور والورود والرياحين  ولا خالياً من المكذبين والمعاندين والمحاربين
ولكنه طريق طويل شاق حافل بالعقبات والأشواك مفروش بالدماء والأشلاء ، محفوف بالمخاطر والفتن والابتلاءات ، يدوى فى جنباته عويلُ المجرمين من الكفار والمنافقين
إذْ لو كان سلوك هذا الطريق الكريم سهلاً ليناً لا يكلف عرقاً وروحاً ودماً ‍‍لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة ولاختلـطت حينئذ دعوات الحق ودعاوى الباطل!!
إذاً  فليس الإيمُان كلمة تُقال باللسان فحسب  حقيقة كبيرة ينبغى أن يعيها السالكون والسائرون على طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين والمرسلين – عليهم صلوات الله أجمعين – ونسيان هذه الحقيقة الكبيرة فى أى مرحلة من مراحل هذا الطريق بل وفى أى لحظة من اللحظات قد يعرض لأضرار خطيرة وفتن كبيرة
لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان فى وقت الدعة والراحة والرخاء وهو يحسبها خفيفة الحمل هينة المؤونة سهلة التكاليف فإن تعرَّض لفتنة أو محنة أو ابتلاء هلع وجزع وسقط والعياذ بالله ، واختلت فى نفسه القيم واضطربت بين يديه وتزعزعت فى قلبه العقيدة  ولقد وصف العليم الخبير هذا الصنف من الناس وصفاً دقيقاً فى قوله جل وعلا : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى فى الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصِرُ من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما فى صدور العالمين( )
إنه نموذج متكرر فى كل جيل وحين ، يَزنُ العقيدة والإيمان والالتزام بميزان الربح والخسارة كأنها صفقة فى أسواق التجارة !! فإن أصابه خير اطمأن به وقال: إن الإيمان خير  فها هو ذا يجلب النفع ، ويدر الضرع وينمى الزرع  ويربح التجارة  ويكفل الرواج: وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة خسر الدنيا بالبلاء الذى أصابه فلم يصبر عليه  ولم يتماسك له  ولم يرجع إلى الله فيه  وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه وانكفائه عن عقيدته وانتكاسه على الهدى الذى كان ميسراً له  والتعبير القرآن يصوره فى عبادته لله "على حرف" غير متمكن من العقيدة ، ولا متثبت فى العبادة يصوره فى حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى ومن ثم ينقلب على وجهه عند مسِّ الفتنة ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب  ولا ريب ذلك هو الخسران المبين  يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى  إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو أعراض الحياة الأخرى التى يفتن الله بها عباده ويبتلى بها ثقتهم فيه وصبرهم على بلائه وإخلاصهم أنفسهم له واستعدادهم لقبول قضائه وقدره  ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان  فياله من خسران !" ( )
فليس الإيمان كلمةَ تقُال باللسان فحسب  ولكنَّ الإيمانَ حقيقةُ ذات تكاليف ثقيلة وأمانةً ذات أعباء كبيرة وجهادً كبير يحتاج إلى صبر جميل
"فلا يكفى أن يقول الناس : آمنا  وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصُرهم خالصة قلوُبهم كما تفتن النارُ الذهبَ لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به – وهذا هو أصل الكلمة اللغوى وله دلالتهَ وظله وإيحاؤه – وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب  وكثيرة من الفتن والمحن والابتلاءات التى يتعرض لها أهل الإيمان على طول الطريق  فمنها أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يجد النصير الذى يسانده ويدفع عنه ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ولا يجد القوة التى يواجه بها الطغيان وهذه هى الصورة البارزة للفتنة المعهودة فى الذهن حين تذكر الفتنة ولكنها ليست أعنف صور الفتنة فهناك فتن كثيرة فى صور شتى ربما كانت أمر وأدهى  فهناك فتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعاً وقد تعصف الفتنة بالقلوب إذا وقع بأهله وأحبابه البلاء أمام عينيه وبين يديه وهو مشلول الحركة لا يستطيع أن يفعل شيئاً !
وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير المخدوعة وتتحطم فى طريقهم العوائق وتصاغ لهم الأمجاد وتصفو لهم الحياة فى الوقت الذى يرى المؤمن نفسه مهملاً منكراً غريباً لا يحس به أحد ولا يشعر بقيمة الحق الذى معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يقدرون على شئ حتى ولا عن دفع الأذى عن أنفسهم
وهناك فتنة من نوع آخر ، نراها بارزة فى هذه الأيام ألا وهى أننا نرى دولاً وأمماً غارقة فى الكفر والرذيلة والانحطاط الأخلاقى المزرى ومع ذلك فهى تعانق كواكب الجوزاء فى الجانب التكنولوجى
ووصلت إلى مرحلة مذهلة من التقدم العلمى وقد يجد الفرد فيها من الرعاية الاهتمام ما يناسب قيمة الإنسان !! وإن كانت عاجزة عن تقديم نموذج إنسانى للقيم النبيلة
وهناك الفتنة الكبرى ، فتنة النفس والشهوات وجاذبية الأرض وثقلة اللحم والدم والرغبة فى المتاع والسلطان أو فى الدعة والاطمئنان ومشقة الاستقامة على طريق الإيمان والاستواء على مرتقاه مع المعوقات الكثيرة فى ملابسات الحياة وفى منطق البيئة وفى تصورات أهل هذا الزمان!" ( )
وهناك فتنة الغربة فى الدين والاستيحاش فى العقيدة حتى أضحى المسلم غريباً فى بيئته بين أهله وإخوانه حتى يقول الإمام ابن القيم: بل الإسلام الحق الذى كان عليه رسول الله  وأصحابه هو اليومَ غربةً منه فى أول ظهوره وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهورة معروفة ، فالإسلام الحقيقى غريب جداً وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس ، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً وأهله غرباء أشد الغربة بين الناس ، وكيف لا تكون فرقة واحدة قليلة جداً غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات اتباع ورئاسات مناصب وولايات ولا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول ؟!
فإن نفس ما جاء به يضادُّ أهواءهم ولذاتهم وما هم عليه من الشبهات والبدع التى هى منتهى فضيلتهم وعملهم والشهوات التى هى غايات مقاصدهم وإراداتهم فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله عن طريق المتابعة غريباً بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم وأطاعوا شحمهم وأعجب كل منهم برأيه ؟!
وفى الحديث عن عبد الله بن مسعود  قال: قال رسول الله  : "إنَّ الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس"( )
فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله عز وجل كانت الفتنة أشد وأقسى وكان الابتلاء أصعب وأعنف ولم يثبت إلاَّ من عصمه الله عز وجل  فالابتلاء تاريخ طويل وقصة كفاح وتضحيات ضخمة كبيرة منذ اللحظات الأولى لتاريخ بنى الإنسان  أجل فما الذى لاقاه نوح عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه إبراهيم عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه يوسف عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه أيوب عليه السلام ؟ وما الذى لاقاه أمام النبيين وسيد المرسلين محمد   إنها قصة طويلة بطول الطريق  قاسية بقسوة مِحَنِه ، وفتنة شديدة بشدة الابتلاءات
والسؤال الذى يقفز إلى أذهان الكثيرين وربما يمنعهم حياؤهم من التصريح به ألا وهو :
فما هى الحكمة من كل هذه المحن والفتن والابتلاءات ؟
والذى يجب أن يكون راسخاً فى القلب لا تعصف به الرياح ولا تزعزعه الاهواء أن نعلم يقيناً أنه ليس أحد أغير على الحق وأهله من الله جلَّ وعلا ، وحاشا لله الرحمن الرحيم أن يعذب أولياءه من المؤمنين بالفتن وأن يؤذيهم بالابتلاءات
"ولكنه الإعداد الحقيقى لتحمل الأمانة فهى فى حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق وإلا بالاستعلاء الحقيقى على الشهوات وإلا بالصبر الحقيقى على الآلام وإلا بالثقة الحقيقة فى نصر الله أو فى ثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء والنفس تصهرها الشدائد فتنفى عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة  فلا يكفى أن يقول الناس : آمنا وهم لا يتركون لهذه الدعوى حتى يتعرضوا الفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمَّنا وهم لا يفتنون هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية فى ميزان الله سبحانه: ولقد فتَّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين  فالفتنة سنة جارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف  لأن الإيمان أمانة الله فى الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل وفيهم على حملها قدرة وفى قلوبهم تجرُّد لها وإخلاص  لا يحملها إلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة وعلى الأمة والسلامة وعلى المتاع والإغراء ، وإنها لأمانة الخلافة فى الأرض وقيادة الناس إلى طريق الله وتحقيق كلمته فى عالم الحياة فهى أمانة كريمة وهى أمانة ثقيلة ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص يصبر على الابتلاء  ولله الحكمة البالغة فإن برزو المجرمين لحرب الدعوات يقوى عودها ويطبعها بطابع الجد الذى يناسب طبيعتها ، وكفاح وجهاد أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلفة هو الذى يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة ، وهو الذى يمحص القائمين عليها ويطرد الزائفين عنها فلا يبقى إلا العناصر القوية المؤمنة المتجردة التى لا تبتغى المغانم ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغى بها وجه الله تعالى مؤثرين دعوتهم على الراحة والمتاع وأعراض الحياة الدنيا بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا فى سبيلها وهؤلاء بجدارة هم أصحاب الأهلية لحمل راية هذه الدعوة والسير بها بين الأشواك والصخور وهم واثقون فيما عند الله تعالى من إحدى الحسنيين ! إما النصر وإما الشهادة"( )
"وهكذا فإن موكب الدعوة إلى الله الموغل فى القدم الضارب فى شعاب الزمان ماض من الطريق اللاحب ماضٍ فى الخط الواصب مستقيم الخطى ثابت الأقدام يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل يقاومه التابعون من الضالين والمتبوعين ويصيب الأذى من يصيب من الدعاه وتسيل الدماء وتتمزق الأشلاء والموكب فى طريقه لا ينحنى ولا ينثنى ولا ينكص ولا يجيد والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين"( )
والوصول – أحبتى – إلى هذا المرتقى الكريم يحتاج حتماً إلى زاد الدعوة اللازم لكل مرحلة من مراحل هذا الطريق الطويل الشاق ألا وهو "الصبر الجميل"
أجل  لابد من هذا الزاد الذى لا يمكن البتة أن يتحرك موكب الدعوة إلا به حتى لتحتاج نفس محمد  فى تجردها وانقطاعها للدعوة وفى ثباتها وصلابتها وصفائها وشفافيتها تحتاج نفسُ محمد  بالرغم من هذا كله إلى هذا التوجيه الربانى الكريم بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة وقطف الثمار فيأمره الله جلًّ وعلا بالصبر فى عشرين موضعاً من القرآن الكريم مرة بصيغة "اصبر" وهى ثمانى عشر واثنتان بصيغة "اصطبر" أما الصبر فقد ورد فى نحو تسعين موضعاً فى القرآن الكريم فهو أكثر خُلق تكرر ذكره فى كتاب الله عز وجل
ولنقرأ معاً بعض هذه الآيات الكريمة:
قال تعالى : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل( )
واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين( )
فاصبر إن العاقبة للمتقين( )
واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين( )
واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون( )
ولربك فاصبر( )
اصبر على ما يقولون( )
فاصبر إن وعد الله حق( )
واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا( )
فاصبر صبراً جميلاً( )
ثم يأتى الأمر بالصبر بعد النبى إلى الأمة فى آيات كثيرة أيضاً :
يقول الله عز وجل : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون( )
واستعينوا بالصبر والصلاة( )
يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين( )
ثم بشر الله عز وجل الصابرين بهذه البشريات الكريمة فقال جل من قائل: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون( )
ثم زاد الله كرامة الصابرين فى الجنة بدخول الملائكة للسلام عليهم كما قال عز وجل: والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار( )
وبعد هذا التفضيل يجمل الله تعالى كرامة الصابرين فى قوله تعالى: وهو الغنى الكريم : إنمَّا يوفىَّ الصابرون أجرهم بغير حساب( )
ذلكم هو شرف الصبر  ولذا جعله النبى  خير وأوسع عطاءُ يعطاه العبد من الله جلَّ وعلا
كما فى الحديث الصحيح من حديث أبى سعيد الخدرى  وفيه: " ومن يستعفف يُعُّفهُ الله ومن يستغن يُغنه الله ومن يتصبر يُصبره الله وما أعطى أحدُ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر"( )
وقال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"( )
ولكن الصبر الجميل ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة مع ضيق الصدر وتململ القلب  كلا ، إنما الصبر الجميل :
"هو الصبر المطمئن الذى لا يصاحب السخط ولا القلق ولا الشك فى صدق الوعد صبر الواثق من العاقبة الراضى بقدر الله ، الشاعر بحكمته من وراء الابتلاء، الموصول بالله المحتسب كل شئ عنده مما يقع به  الصبر جميل: هو الترفع على الألم والاستعلاء على الشكوى  والثبات على تكاليف الدعوة  والتسليم لله عز وجل  والاستسلام لما يريد من الأمور  والقبول لحكمه والرضى به  الصبر الجميل: هو الذى يكون ابتغاء وجه الله جل وعلا  لا تحرجاً من الناس حتى لا يقولوا جزعوا  ولا تجملاً للناس حتى يقولوا صبروا  الصبر الجميل هو الثبات على طول الطريق دون عجلة أو قنوط  ولنقف أمام لفتة تستحق التدبر العميق ألا وهو أن الرسول  الذى يلاقى ما يلاقى من الأذى والتكذيب والكبر والكنود يقُال له: فاصبر إنَّ وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون : أدَّ واجبك وفقط فأما النتائج فليست لك حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقق وعيد الله للمتكبرين والمكذبين ليس له أن يعلق به قلبه  إنه يعمل وكفى  يؤدِّى واجبه ويمضى  فالأمر ليس أمره والقضية ليست قضيته – بأبى هو وأمى – ولكن الأمر كله لله والله يفعل به ما يريد  ولمثل هذه اللفتة العميقة ينبغى أن تتوجه قلوب الدعاة إلى الله فى كل حين فهذا هو حزام النجاة فى خضم الرغائب التى تبدو بريئة فى أول الأمر ثم يخوض فيها الشيطان بعد ذلك ويعوم  نعم فإنه من السهل جِّداً على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته فيهجر الناس  إنه عمل مريح  قد يفتأ الغضب ويهدئ الأعصاب  ولكن أين هذه الدعوة ؟ إن الدعوة هى الأصل لا شخص الداعية فليضق صدره  ولكن ليكظم غيظه وليمض فى دعوته  والله أرعى لدعوته وأحفظ فليؤدِّ الداعية واجبه فى كل ظرف وفى كل جو والبقية على الله تعالى والهدى هدى الله عز وجل  وإن فى قصة ذى النون – عليه السلام – لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغى أن يتأمَلوه وأن فى رجعة ذى النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغى أن يتدبروها  والقرآن الكريم لا يقص قصة إلا ليواجه بها حالة ، ولا يقرر حقيقة إلا ليغير بها باطلاً لا للنظر المجرد
وفى قصة يونس عليه السلام الذى لم يصبر على تكاليف الرسالة فى لحظة من اللحظات فضاق صدراً بالقوم وألقى عبء الدعوة وذهب مغاضباً  ضيق الصدر  حرج النفس فأوقعه الله فى الضيق الذى تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين ، ولولا أنه ثاب إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه فما فرَّج الله عنه هذا الضيق
يقول عزَّ من قائل: وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظنَّ أنه لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين( )
فمن مسه الضر فى فتنة من الفتن وفى ابتلاء من الابتلاءات فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه وقدرته على كشف الضراء وعلى العوض والجزاء فأما من يفقد ثقته فى نصر الله فى الدنيا والآخرة ويقنط من عون الله له فى المحنة حين تشتد المحنة  فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء وليذهب بنفسه كل مذهب فما شئ من ذلك بمبدل ما به من البلاء: من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيـظ  والذى ييأس فى الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة وكل نسمة رخية وكل رجاء فى الفرج ويستبد به الضيق ويثقل على صدره الكرب فيـزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء إلا أنه لا سبيل فى احتمال البلاء إلا بالرجاء فى نصر الله ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله ولا سبيـل إلى الاستعلاء على الضر والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة الشعور به والعجز عن دفعه بغير عون الله
وأخيراً  فإنَّ الذين احتملوا فى الطريق إلى الله ما احتملوا فلم ينكصوا ولم يأسوا الذين صبروا على فتنة الناس وعلى فتنة النفس  الذين حملوا أعباءهم وساروا فى ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب  أولئك لن يتركهم الله وحدهم ولن يضيع أعمالهم ولن ينسى جهادهم  إنه تعالى سينظر إليهم من عليائه فيرضيهم وسينظر إلى جهادهم فيه فيهديهم  وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم  وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين( )
وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب فما هم أبداً بمفلتين من عذاب الله ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم وانتفش ومهما زاد ظلمهم وانتعش  فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سنة جارية ليميز الخبيث من الطيب  فقد جعل أخذ الظالمين أيضاً سنة لا تتبدَّل ولا تتخلف  فكل هذه القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ومن وسائل الإبادة والتدمير مثلها: كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون( )
نعم  فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة ؟!
أين فرعون الذى قال لقومه: أنا ربكم الأعلى  واستخفهم بقوله: أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ؟!
فأجراها الله من فوقه !!!
أين نمرود بن كنعان الذى قال لإبراهيم – عليه السلام - : أنا أحيى وأميت؟!
أين قارون الذين قال فى خيلاء وكبر واستعلاء: إنا أوتيته على علم عندى؟!
وأين عاد وأين ثمود ؟ وأين أبو جهل وأبو لهب ؟
فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليهم حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( )
فيا أيها الظالمون:
يا أيها المجرمون:
محال أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون فاعلموا ما شئتم فإنا عاملون وجورواً فإنَّا إلى الله مستجيرون وأظلموا فإنَّا إلى الله متظلمون: وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون
ولله در القائل:





فيا أيها الظالمون:
اتقوا دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب فإن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: "وعزتى وجلالى لأنصرنك ولو بعد حين"



أما أنت :



فإنَّ نصر الله دائماً وحتماً فى نهاية الطريق وهى سنة لابد منها فى النهاية بموعود الله جلَّ وعلا ولكنها تجئ فى موعدها المحدد من الله جلت حكمته ولا يعجلها عن هذا الموعد أن الدعاة الأبرياء الطيبين الخالصين المخلصين يصابون بالأذى ولا أن المجرمين والظالمين والضالين يقدرون على صب الفتن على رؤوس المؤمنين ولا يعجلها كذلك عن موعدها أن صاحب الدعوة المخلص المتجرد لله إنما يرغب فى هداية قدمه حباً لهم وخوفاً من عذاب الله فى الدنيا والآخرة لا يعجلها عن مودعها شئ من ذلك كله فإن الله تعالى لا يعجل لعجلة أحد من خلقه ولا مبدل لكلماته سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم أو بالأجل المرسوم
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون( )
وقال عز وجل:
حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين( )
هذه هى الحقيقة فى كل دعوة يخلص فيها الجند ويتجرد الدعاة لله عز وجل  إنها غالبة منصورة مهما وضعت فى طريقها العراقيل ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار
والمؤمن يتعامل مع وعد الله عز وجل على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير فى جيل محدود أو فى رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا هو الباطل الزائل الذى يوجد فترة فى الأرض لحكمة خاصة
والنصر السريع الهين اللين الذى لا يكلف الدم والروح والعرق سهل أن يفقد وأن يضيع بتلك السهولة أيضاً
وقد يؤخر الله النصر لأن بنية الأمة لم تزل ضعيفة ولم تبذل أقصى ما عندها من استطاعة ولم تصل بعد إلى مستوى الإيمان الذى يكون مقدمة فورية لنصر عاجل: وكان حقاً علينا نصر المؤمنين
وقد يؤخر الله النصر لأن الأمة لم تتجرد بعد فى إسلامها وجهادها ودعوتها لله عز وجل فالنصر لم يكن يوماً فى تاريخ الإسلام بالعدد ولا بالعُدد ولا بالزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التى لا تقف لها قوة العباد بعدما يبذل المؤمنون أقصى ما عندهم من أسباب
فهيا بعد هذه الجولة المتعبة للقلوب المؤلمة للنفوس إلى رحاب هذه البشريات الكريمة القرآنية والنبوية بحتمية نصرة هذا الدين رغم كيد الكائدين فإلى الخاطرة الأخيرة "بشرى وأمل"


الخــاطرة الاخيرة
بشرى وأمل

وقد يتألم الكثير من الأحبة ويقول فى مرارة وحسرة:
أيةُ بشرى وأى أمل  وأندلس أخرى جديدة تضيع على مرأى ومسمع المسلمين فى البوسنة والهرسك ؟!
أيةُ بشرى وأى أمل  وعرض الإسلام ينتهك فى سراييفو ؟!
أية بشرى وأى أمل  وبركُ الدماء وأكوام الأشلاء فى كل مكان تجسد الفجيعة وتحكى المأساة ؟!
أية بشرى وأى أمل  وقد زال ظل الخلافة وتمزقت الأمة إلى أجزاء ثم تفتت الأجزاء هى الأخرى إلى أجزاء ؟!
أية بشرى وأى أمل  وقد بتُر من جسد الأمة القدس الحبيب أولى القبلتين؟!
أية بشرى وأى أمل  والمذابُح الوحشية البشعة تلاحق المسلمين فى كل مكان فى الهند  فى الصومال  فى أوغندا  فى الفلبين  فى كشمير  فى بورما  فى تركستان  فى كمبوتشيا  فى سيريلانكا  فى كل مكان ؟!
أية بشرى وأى أمل  وطلائع البعث الإسلامى تتعرض لأشد الضربات وأعنف الهجمات ؟!
أية بشرى وأى أمل وقد اتفق أعداء الإسلام على اختلاف مشاربهم وأيدولوجياتهم على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين ؟!
وبالرغم من كل هذا  بل وأكثر من هذا  أقول  رويداً رويداً أحبتى فى الله
فلئن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلله أوس قادمون وخزرج
وإن كنوز الغيب تخفى طلائعــاً صابرة رغم المكائد تخرج
نعم  فإن أشد ساعات الليل سواداً هى الساعة التى يليها ضوء الفجر  وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار  وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل ولكنها بفضل الله جل وعلا لا تموت  وإن الذى يفصل فى الأمر فى النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذى يفصل فى الأمر هو قوة الحق  ولا شك مطلقاً أن معنا الحق الذى من أجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل
معنا رصيد الفطرة  فطرة الكون وفطرة الإنسان وقبل كل ذلك وبعد كل ذلك معنا الله  ويا لها والله من معية كريمة جليلة مباركة : والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
إنه وعد الله وكلمته ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
إن هذا الوعد المبارك سُنة من سنن الله الكونية الثابتة التى لا تتبدلَّ ولا تتغيرَّ وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضى الكواكب والنجوم فى أفلاكها بدقة وانتظام  وقد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جداً ولكن آتٍ بإذن الله فى نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار
ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب  ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح  كلا ولكنه القرآن الكريم يتحدث والرسول الصادق الأمين يبشر والتاريخ والواقع يشهد  نعم
فمن الذى كان يظن رسول الله  مع قلة مؤمنة فى مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويُطردون من بيوتهم وبلدهم  بل ونال البلاء والأذى رسولهم  فاتُّهم بالسحر والجنون ووُضع الترابُ وسلا الجذور على رأسه وهو ساجد  واضطر النبى  تحت وطأة هذا الأذى أن يخرج هو الآخر يبحث عن أرض أكثر خصوبة من أرض مكة الصلبة الصلدة ليبذر فيها بذرة التوحيد  وخرج بأبى هو وأمى يشق الأودية والجبال على قدميه الداميتين المتعبتين  بلا راحلة يركبها  ويتجه الحبيب إلى الطائف  يفتش عن أمل ويبحث عن معين  وينقب عن يد حانية تحمل هذا الدين وتنطلق بهذا النور  ووصل الحبيب إلى الطائف بعد مسير طويل تحت حرارة الشمس التى تحرق الحجارة وعلى هذه الرمال التى تلفح الوجوه بلهيبها  وصل الحبيب وحاله تتمزق لها القلوب  جوع  وعطش  وألم من السير بالليل والنهار  وحزن على دعوة مطاردة  وأصحاب وأتباع تتخطفهم أيدى الطغاة  وأصيب النبى  بفاجعة شديدة فلقد كان القوم أخس وأنذل مما ينتظر فطردوه من بلادهم وأغروا به العبيد والسفهاء فرموه بالحجارة وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابنى ربيعة والدماء الشريفة تسيل من قدميه  وعاد النبى  من الطائف مطروداً مجروحاً منكسر القلب حتى حنت عليه السحاب وأشفقت لمنظره الحجارة وأغصان الشجر واستعدت الجبال الرواسى للانتقام له وجاءه ملك الجبال يستأذنه فى أن يطبق عليهم الأخشبين  ولكن ينبوع الحنان ونهر الرحمة يرد عليه قائلاً : بل أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا شرك به شيئاً  سبحان الله العظيم  والله لو كان الحبيب ممن ينتقم لنفسه ولذاته لأمر ملك الجبال أن ينتقم فطحنت الجبال تلك الجماجم الصلدة ولسالت من جبال الطائف دماء يراها أهل مكة  ولكنه ما خرج لنفسه قط  بل ما جاء إلا ليملأ الحياة إيماناً ونوراً ورحمة وسعادة  جاء وفى قلبه يقين يقول: إن فى هذه الأصلاب ربيع قادم يتنفس الإسلام ولا يعيش إلا به  وها هو وعد الله يتحقق بعد هذه السنوات البطيئة الثقيلة  وها هو رسول الله  يرجع إلى مكة فاتحاً منتصراً بإذن الله يحيط عشرة آلاف رجل رباهم على عينه  ويدخل الحبيب المسجد وتتهلل الكعبة فرحاً بشروق شمس التوحيد  وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة فى ذل وخزى شديد ويردد الحبيب قول الله عز وجل: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً
من كان يظن فى الأيام الأولى للدعوة أن يأتى هذا اليوم بهذه السرعة وهذا النصر المبين  إنه وعد الله !!
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد موت رسول الله  وبروز فتنة الردة بوجهها الكالح وجد عروة بن الزبير حال المسلمين فى هذه الأيام تجسيداً دقيقاً فقـال: "وأصبح المسلمون كالغنم فى الليلة المطيرة الشاتية لفقد نبيهم وقلة عددهم وكثرة عدوهم"، حتى وجد من المسلمين من يقول للخليفة المبارك الراشد أبى بكر  وأرضاه من يقول له: يا خليفة رسول الله أغلق بابك والزم بيتك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين!!
ولكن الصديق الذى ملأ الله قلبه يقيناً وإيماناً وثباتاً وعزماً وقف وقفته الخالدة وصرخ فى وجه عمر بن الخطاب  قائلاً: "مه يا عمر رجوت نصرتك وجئتنى بخذلانك أجبار فى الجاهلية وخوار فى الإسلام ؟ ماذا عسيت أن أتألفهم بسحر مفتعل أم بشعر يفترى؟ هيهات هيهات مضى رسول الله   وانقطع الوحى فوالله لأجاهدنهم ما استمسك السيف فى يدى فوالله لأقاتلنًّ من فرق بين الصلاة والزكاة فوالله لو منعونى عقال بعير كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه
وفى وسط هذه الظروف الحرجة أنقـذ جيش أسامة بن زيد وقال للمعارضين الذين طلبوا أن يبقى الجيش فى المدينـة لحمايتها قال لهم الصديق  : والذى نفسى بيده لو ظننت أن السباع تخطفنى لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله  وما كنت لأحل عقداً عقده رسول  بيديه  وانتهت الفتنة وهلك مدعو النبوة وزاد الإسلام رفعة وعزة وتحطمت على أيدى هؤلاء الأطهار أعظم الإمبراطوريات  وحُمِلِ تاج كسرى لفاروق الأمة عمر بن الخطاب فى مدينة رسول الله   إنه وعد الله !!
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين فى معركة حطين الحاسمة التى خلدها التاريخ  إنه وعد الله
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين فى معركة حطين الحاسمة التى خلدها التاريخ  إنه وعد الله
ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد هجمة المغول والتتار الشرسة على العالم الإسلامى  وقد سفكوا الدماء ونهبوا الأموال وفتكوا بالأنفس والأعراض فتكاً ذريعاً مريعاً حتى قال المؤرخ "ابن الأثير الجزرى" فى تصويره للمأساة: "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها فأنا أقدم رجلاً وأؤخر أخرى فمن ذا الذى يسهل عليه أن يكتب نعى الإسلام والمسلمين ؟ ومن الذى يهون عليه ذكر ذلك ؟ فياليت أمى لم تلدنى ويا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً !!" حتى قبض الله البطل الكبير "قطز" ليحرر الأرض ويعيد المجد والشرف بعد المعركة الحاسمة "عين جالوت"  إنه وعد الله
وهكذا – أيها الأحبة – فقد تمرض أمة الإسلام ويعتريها فترات من الركود ولكنها بفضل الله لا تموت وإن التفاؤل بالنصر هو مقدمة النصر بإذن الله وها هى بعض البشائر القرآنية أيضاً أزفها إليكم لتطمئن القلوب الجريحة ، ولتسكن النفوس القلقة ، ولتعلم أن الإسلام قادم قادم رغم كيد المجرمين
يقول الله عز وجل : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز( )
هذا وعد بالنصر من الله جلَّ وعلا ووعد الله لا يخُلف ولكن قد يتأخَّر النصر لأسباب كثيرة قد تخفى علينا ولكنها لا تخفى على من يعلم السر وأخفى  لأن النصر له شروطه وأسبابه وله تكاليفه ولا يعطى النصر لأحد جزافاً أو محاباة كما أنه لا يستمر لأحد لا يحقق شروطه ومقتضاه !!
فقد يبطئ النصر لأن الأمة لم تنضج بعد النضج الذى يؤهلها لحماية هذا النص والمحافظة عليه لإقامة دين الله عز وجل
والنصر السريع الذى لا يكلف عناءً ومشقة ودماءً وأرواحاً  نصر سهل هين لين يسهل فقدانه وضياعه
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تبذل كل استطاعتها من قوة وعرق وأرواح ودماء لدين الله عز وجل وقد يبطئ النصر لأن الأمة ابتعدت عن الله جل وعلا وتعلقت ببعض قوى الأرض ولم تتجرد بعد فى بذلها وتضحياتها لله عز وجل وقد يبطئ النصر لأن كثيراً من أفراد الأمة ما زال متلبساً بالشرك العملى المزرى !!
وقد يبطئ النصر لأن الأمة تفتتت وتشعبت إلى أجزاء وتفتت الأجزاء هى الأخرى إلى أجزاء !!
وهذا كله لا ينقض القاعدة بل يؤكَّدها ويزيدها وضوحاً وهى أن الله تعالى ينصر من نصر دين الله عز وجل
وقد تحقق وعد الله لهؤلاء الحفاة العراة الجياع المستضعفين والمضطهدين من أصحاب رسول الله  لما نصروا دين الله وقدموا أنفسهم وأرواحهم وأموالهم لله عز  وصدقوا الله تعالى فحولهم الله بهذا الدين من رعاة للإبل والغنم إلى قادة وسادة لجميع الدول والأمم وعبر الفاروق عمر  عن هذه الحقيقة أروع تعبير فى قوله العذب: لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز فى غيره أذلنا الله
وهاهى هذه البشارة تلوح مقدماتها فى الأفق كالفجر  متمثلة فى هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات  هذا الشباب الذى جاء يمشى على الشوك يخطو بين الصخور والحجارة قابضاً على الجمر يريد أن يبذل دمه لدين الله عز وجل  ووعد الله قائم مذخور لكل من يسير على ذات الطريق بإذن الله
ويشرق علينا نور البشارة الثانية من سورة النور يقول الله عز وجل : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدوننى لا يشركون بى شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون( )
هذا وعد الله لأهل الإيمان الصادق وأصحاب التوحيد الخالص أن يستخلفهم ويمكن لهم فى الأرض ما داموا قد أخلصوا العبادة لله عز وجل وحده ولم يشركوا به شيئاً واستقاموا على هذا التوحيد  وقد تحقق بالفعل وعد الله عز وجل فى حياة رسوله  وحياة الرعيل الأول من بعده حتى بلغت حدود الدولة الإسلامية أقصى المشرق والمغرب وكُسِر كسرى وأهين قيصر  ووعد الله جل وعلا مذخور لكل من يقيم حقيقة الإيمان وصفاء التوحيد  فما من مرة سارت الأمة على منهج الله وأخلصت العبودية لله جل وعلا وحكمت هذا الدين وحولته إلى واقع ومنهج حياة وارتضته فى كل أمورها وشئون حياتها إلا وتحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن وما من مرة خالفت هذا المنهج وحادت عن هذا الطريق إلا وذلت واستبد بها الخوف وتخطفها الأعداء القاصى قبل الدانى والضعيف قبل القوى والذليل قبل العزيز وهذه سنة الله التى لن تتبدل ولن تتغير  ولن تجد لسنة الله تحويلاً( )
"والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير فى جيل محدود أو فى رقعة محدود يخالف تلك الحقيقة فهذا الواقع هو الباطل الزائل وحين ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التى شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان فى صورها المتنوعة من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد فى عهود متطاولة بلغ فى بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية  ثم بقى الإيمان فى قلوب المؤمنين يحميهم من الأنهيار ويحمى شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها فى الأمم الهاجمة عليها  حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع فى المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى يجده فى هذا الواقع بدون حاجة إلى الانتظار الطويل: إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك فى الأذلين  كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلى إن الله قوى عزيز( )
وعلى أية حال فلا يخالج المؤمن شك فى أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التى لابد أن تظهر فى الوجود  إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان وهى مقاييس بشرية صغيرة فأما المقياس الشامل فيعرض القضية فى الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان ولو نظرنا إلى قضية العقيدة هو انتصار أصحابها  والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صور معينة معهودة لهم قريبة الرؤية لأعينهم  ولكن صور النصر شتى وقد يتلبس بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة  فإبراهيم عليه السلام وهو يلقى فى النار فلا يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها  أكان فى موقف نصر أم فى موقف هزيمة ؟ ما من شك فى منطق العقيدة أنه كان فى قمة النصر وهى يلقى فى النار كما انتصر مرة أخرى والله ينجيه من النار وهكذا  فكم من موقف نصر وقد يراه البعض عند النظرة القصيرة هزيمة  وبالجملة فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة وليس بالمال والزاد إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التى لا تقف لها قوة العباد
وإليكم البشارة الثالثة من سورة الأنفال وهى بشارة كريمة تتنزل على القلوب الجريحة كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى
ألا وهى قول الله عز وجل : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون الذين كفروا إلى جهنم يحشرون( )
فكم من المليارات التى أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله عز وجل ولكن بموعود الله عز وجل: فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون
نعم  فكم من أموال بذلت وأنفقت لتنصير المسلمين !!
وكم أنفق من أموال للقضاء على طلائع البعث الإسلامى ؟!
وكم أنفق من أموال لتدمير كيان الأسرة وتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الساقطة الهابطة؟!
وكم أنفق من أموال لتدمير ومسخ الهوية المسلمة ؟!
وكم أنفق من أموال على أندية الرويتارى العالمية ؟!
وكم أنفق من أموال على أندية الماسونية العالمية ؟!
وبالجملة فكم أنفق من أموال لإخراج المسلمين عن دينهم فى نهاية المطاف؟!
ولكن ما هى النتيجة ؟
النتيجة بفضل الله جلَّ وعلا وبموعوده فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون
ومن النتائج العملية أيضاً ما ذكرته وثيقة التنصير الكنسى التى كتبت فى أكثر من مائة وخمسين صفحة وتم إعدادها عبر دراسات دقيقة أجريت خلال خمس سنوات ونشرت خبرها صحيفة "نيويورك تايمز انترناشيونال" فى عددها الصادر فى الثالث والعشرين من شهر يناير لعام 1991 وفيها يصرخ بابا الفاتيكان جون بول الثانى ويوجه النداء إلى النصارى فى مختلف أنحاء العالم للتحرك وبسرعة من أجل نشر المسيحية –على حد قوله – لمواجهة المد الإسلامى الذى أخذ يمتد ويتصاعد فى مختلف أنحاء العالم واعترف فى هذه الوثيقة مساعدو البابا اعترافاً صريحاً بأن الإسلام هو التحدى والمنافس الأول وأنهم يحسون بهلع شديد من انتشار المد الإسلامى فى مختلف أنحاء العالم
وأختم هذه البشائر القرآنية – الكثيرة – بهذه البشارة الكريمة من سورة الصف:
يقول الحق جلا وعلا : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون( )
وهل تستطيع جميع الأفواه ولو اجتمعت أن تطفئ نور الله جل وعلا ؟‍‍‍ فأين السُّهى من شمس الفجر ؟‍‍
وهل تستطيع الطحالب الحقيرة أن توقف سير السفن العملاقة  فأين الثرى من كواكب الجوزاء ؟‍
وستظل هذه البشريات القرآنية تبعث الأمل فى القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله جل وعلا وإن تأخر النصر وطال الطريق
وتأتى البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة أيضاً وإليكم بعضها
فعن تميم الدارى  قال: قال النبى : "ليبلغَّن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزًّا يعز الله به الإسلام وذلاًّ يذل الله به الكفر"( )
وكان تميم الدارى  يقول: قد عرفت ذلك فى أهل بيتى لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافراً الذل والصغار والجزية
وعن حذيفة بن اليمان  قال: قال النبى  : "تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"( )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال: كنَّا عند رسول الله   نكتب فقال رجل: أى المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فقال: مدينة هرقل: "يعنى القسطنطينية"( )
ومن المعلوم أن القسطنطينية فتحت أولاً على يد البطل الشاب محمد الفاتح عام 1453 أى بعد البشارة النبوية بثمانية قرون تقريباً ويبقى الشطر الثانى من البشارة وعد لا يكذب إن شاء الله
وعن ثوبان  قال: قال رسول الله : "إن الله زوى لى الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زُوى لى منها"( )
ومن أعظم هذه البشريات ما رواه الشيخان عن أبى هريرة  أن النبى قال : "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودى من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودى خلفى فتعال فاقتله إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود"( )
ولقد حدد من لا ينطق عن الهوى - - حدد أرض المعركة تحديداً دقيقاً كما فى رواية البزار ورجالها ثقات وقال الهيثمى فى المجمع: "ورجالها رجال الصحيح ، أنه صلى عليه وسلم قال: "أنتم شرقى الأردين وهم غريبه"  ولم تكن هناك دولة يومذاك تعرف بالأردن ‍‍
ولكنها النبوة  "وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى"
هذه بعض البشائر النبوية المباركة على نصرة هذا الدين ، وإن تأخرَّ النصر وطال الطريق  فإن الإسلام قادم لأنه الدين الذى ارتضاه الله للبشرية كلها ديناً" : الدين عند الله الإسلام ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام ديناً
وها هو الأمل – بعد هذه البشائر – الذى بدأ يلوح فى الأفق  ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم إنه أكبر حدث إنسانى فى النصف الثانى من القرن العشرين بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة  هذا الحدث الكبير الذى هز كيان العالم كله متمثلاً فى هذه الصحوة الإسلامية المباركة التى بدأت تتنزل على كل بقاع الأرض كتنزل حبات الندى على الزهرة الظمأى والأرض العطشى
تلك الصحوة الكريمة التى يغذيها كل يوم  بل كل ساعة شباب فى ريعان الصبا وفتيات فى عمر الزهور والورود ينسابون من كل حدب وصوب يمشون على الشوك ويتحركون وسط الصخور والحجارة ويقبضون على الجمر ويعرضون أنفسهم لكل أصناف الأذى والاضطهاد ومع ذلك يرفعون أصواتهم وينادون بالعودة مرة أخرى إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله  وهم على ثقة مطلقة بوعد الله عز وجل وعلى يقين جازم بأن الشهداء والمعذبين إنما هم معالم عن طريق النصر وأن دين الله عز وجل لن يقوم على أشلاء وجماجم الشهداء وأن مصابيح الهداية لابد أن توقد بدماء الأبرار الأطهار الذين باعوا إلى الله أنفسهم وأموالهم يريدون جنة عرضها السموات والأرض
إنه الأمل  إنه هذا الجيل  جيل الصحوة الذى تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق  ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار ولم يؤثر فيه سحرها المغير للعقول والأفكار
إنه الجيل المبارك الذى بدأ يوجه وجهه من جديد إلى مكة المكرمة وولى ظهره لواشنطن وباريس وبانكوك ومدريد !!
فحيثما توجهت بفضل الله عز وجل وجدت رجوعاً خاشعاً خاضعاً إلى الله تعالى ووجدت نفوساً متعطشة إلى دين الله مشتاقة إلى الإسلام لتستظل بفيئه بعد أن أضناها لفج الهاجرة القاتل وأرهقها طول المشى طيلة السنوات الماضية فى التيه والظلام!! وحيثما توجهت سمعت آهات التائبين ونبرات العائدين تردد – ودموع الخشوع تزين الوجوه – تردد فى خشوع وتبتل: تائبون عابدون لربنا حامدون
صبح تنفس بالضياء وأشرقـــا والصحوة الكبرى تهز البيرقا
وشبيــة الإسلام هذا فيلـــق فى ساحة الأمجاد يتبع فيلقـاً
وقوافل الإيمان تتخــــذ المدى درباً وتصنع للمحيط الزورقـا
ما أمر هذى الصخرة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققــا
هى نخلة طاب الثرى فنما لهـا جذع قوى فى التراب وأعــذقا
هى فى رياض قلوبنا زيتونـة فى جذعها غصن الكرامة أورقا
فجر تدفق مَنْ سيحـبس نوره أرنى يداً أسدت علينا المشرقـا
يا نهر صحوتنا رأيتك صافيـاً وعلى الضفاف رأيت أزهار التقى( )
وأخيراً  إليك يا جيل الصحوة الكريم بعض النصائح التى أسأل الله أن ينفع بها
أولاً: تعرفوا على الإسلام معرفة شاملة صحيحة لتكونوا مسلمين علماً وفهماً وعملاً كما أنكم مسلمون قلباً وروحاً وعاطفة
ثانياً: بادروا إلى تقويم ما اعوج وإصلاح ما فسد من الأخلاق والعادات حتى تشهدوا للإسلام شهادة عملية واقعية بعد ما شهدتم له شهادة قولية  لأن التناقض بين القول والعمل يزرع بذور النفاق فى القلوب والله جل وعلا يقول: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
ثالثاً: اهتموا جيداً بنشر الدعوة بين صفوف العوام حتى تبددوا ظلام جهلهم وتجعلوهم على بينة من أمر دينهم فهؤلاء هم محل دعوتنا
رابعاً: تحركوا بكل ما تملكون من قوة وطاقة وجهد للدعوة لدين الله عز وجل على كل المستويات بسلاح من الخلق العذب والشمائل الكريمة والحكمة البالغة والموعظة الحسنة فلا يكفى أبداً ولا يصح أن نقف لإصدار الأحكام بالكفر والإيمان على الناس فى الوقت الذى لا نتحرك فيه لدعوتهم لدين الله عز وجل
خامساً: اعلموا بأن الإسلام جاء ليعلمنا كل شئ  حتى آداب قضاء الحاجة لم يغفل أبداً عن وضع الأسس السليمة والقواعد القويمة لبناء الدولة المسلمة ومن ثم فيجب على كل أبناء الصحوة بصفة عامة وعلى كل فصيل حركى بصفة خاصة ألا يتحرك حركة صغيرة ولا كبيرة إلا من خلال فهم دقيق ووعى عميق للضوابط والقواعد الشرعية فإن الأمر دين
سادساً : لا تتعجلوا النتائج فإن من تعَّجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه !!
سابعاً :
يا جيل صحوتنا أعيذك أن أرى فى الصف من بعد الإخاء تمزقاً
لك من كتاب الله فجرُ صــادق فاتبع هداه ودعك ممن فَرَّقــا
لك فى رسول الله قدوة فهو الذى بالصدق والخلق الرفيع تخلقـا
يا جيل صحوتنا ستبقى شامخـاً ولسوف تبقى بالتزامك أسمقـا
وبعد  أسأل الله تعالى أن يقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز المسلمين وأن يثبتنا وإياكم على الحق وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وكتب
أبو أحمد / محمد حسان


فهــــــرس

الموضوع الصفحة
الإهداء:
المقدمة:
الخاطرة الأولى: أسباب الخواطر
الخاطرة الثانية : تبعة ثقيلة
الخاطرة الثالثة: منهج الأنبياء والرسل فى الدعوة إلى الله
الخاطرة الرابعة: نقطة البدء
الخاطرة الخامسة: عقبات على طريق الدعوة
العقبة الأولى: أعداء الإسلام فى الخارج  والداخل
العقبة الثانية: الهزيمة النفسية أمام تحديات الغزو الفكرى
العقبة الثالثة: كثرة أهل الباطل وظهورهم وقلة أهل الحق وابتلاؤهم
العقبة الرابعة: حب الدنيا وكراهية الموت
العقبة الخامسة: اتباع الهوى
الخاطرة السادسة : لمن يكون الزاد ؟!
الخاطرة السابعة: زاد على طريق الدعوة
أول الزاد  تقوى وإخلاص
الخاطرة الثامنة: وزادنا الثانى  علم وفهم وعمل
الخاطرة التاسعة: وزادنا الثالث  حكمة ورحمة وتواضع
الخاطرة العاشرة: وزادنا الرابع  تجرد وعدل وإنصاف
القاعدة الأولى: التورع فى القول
القاعدة الثانية: التجرد عن الهوى
القاعدة الثالثة: تقديم حسن الظن بالمسلمين
القاعدة الرابعة: وجوب العلم والعدل والإنصاف
القاعدة الخامسة: الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات والحسنات والسيئات
القاعدة السادسة: اعرف الحق تعرف أهله
الخاطرة الحادية عشرة : وزادنا الخامس  صبر جميل
الخاطرة الأخــــــــــيرة: بشرى وأمل


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire