lundi 4 mars 2013

أختاه لا تقنطي من رحمة الله



مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( ).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ( ) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( ).
أما بعد :
مما لا ريب فيه أنَّ المرأة هي أساس المجتمع، ففي صلاحها صلاح للمجتمع كله، فهي التي تقوم على تربية الأولاد من البنين والبنات، فإذا كانت هذه المربية متهتكة مستهترة لا تقيم لمبادىء الفضيلة أية قيمة، ولا لمفهومات العفة والشرف أي اعتبار، فيؤدي ذلك إلى ضياع الأبناء وانتشار الفساد في المجتمع، أما إذا كانت مثالاً للعفة والطهر والإيمان فيؤدي ذلك إلى وجود الشاب المسلم التقي الذي يؤمن بربه عز وجل، فيؤدي ما عليه من واجبات تجاه ربه ثم مجتمعه الذي يعيش فيه، وكذلك الفتاة المسلمة التقية التي تؤمن بربها عز وجل ثم مجتمعها الذي تعيش فيه، مما يؤدي إلى صلاح المجتمع ففي صلاحها صلاحٌ للمجتمع.
ومما يجدر الإشارة إليه أنه في هذه الأيام قد بعدت كثير من المسلمات عن دين الله – عز وجل – فعمّت البلوى وانتشر الفساد في كثير من بلاد المسلمين مما جعلني أهمس بكلماتي هذه في أُذن كل مسلمة ابتعدت عن دين الله عز وجل قائلاً لها : " لا تقنطي من رحمة الله ".
واعلمي أن الله يغفر الذنوب جميعًا، فعودي إلى الله وتوبي إليه توبة نصوحًا، فإن الله أمر المؤمنين جميعًا بالتوبة، فقال : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ  جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ) .
فهذه رسالة متواضعة سميتها :
أختاه لا تقنطي من رحمة الله
لتعلم كل مسلمة ابتعدت عن دين الله عز وجل أن الله يغفر الذنوب جميعًا فلا تقنط من رحمة الله ولتبادر بالتوبة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى.
وقد عرضتها – أي هذه الرسالة – على شيخي وأستاذي فضيلة الشيخ / محمد عيد العباسي حفظه الله ورعاه، فأشار عليّ بتوسعها وذلك بالاستشهاد بتوبة بعض التائبين والتائبات وبعض الأحاديث كحديث : « لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم... » فكان ذلك، والحمد لله.
فإن كان هناك تقصير أو نسيان في بعض جوانبها فالله أسأل أن يتجاوز عن تقصيري هذا إنه جواد كريم، وأن ينفع بها المسلمين ويجعلها في ميزان أعمالنا إنه على كل شيء قدير.
وكتبه الفقير إلى عفو ربه:
أبو محمد عصام بن عبد ربه آل مشاحيت.

خطورة المعصية
بادىء ذي بدء اعلمي أختاه أن المعصية خطر جسيم يمتد أثره من الفرد على المجتمع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم قومٌ صالحون، يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون إلى رحمة الله ومغفرته » ( ) .
فالذنوب والمعاصي تضر، وضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، ولا يوجد في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، وتصفحي أختي المسلمة كتاب الله عز وجل وتدبري ما حدث للأمم السابقة بسبب الذنوب والآثام.
*فبسببها خرج آدم وحواء من الجنة :
قال تعالى : وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ( ) .
* وبسببها طرد إبليس ولُعن وبُدِّل بالجنة نارًا تلظّى:
قال الله عز وجل : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( ) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره : " وهكذا لما أمر الله له الملائكة بالسجود، فدخل إبليس في خطابهم وكان قبل المعصية عبدًا صالحًا يتعبّد مع الملائكة، فلما أمر الله بالسجود لآدم فسجد الملائكة طاعة لله إلا إبليس, أبى واستكبر عدو الله أن يسجد لآدم – عليه السلام – حسدًا منه على ما أعطاه الله من الكرامة وقال : " أنا ناري، وهذا طيني، وكانت المعصية ابتداء ذنوبه وسببها الكِبْر، وقد ثبت في الصحيح : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر » ( ) .
وقد كان في قلب إبليس من الكبر والكفر والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وكان من الكافرين بسبب امتناعه أي صار من الكافرين...اهـ" ( ) .
* وبسببها أُغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال :
قال الله عز وجل : مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ( ) .
قال ابن كثير – رحمه الله تعالى – " أي من إصرارهم على الكفر ومخالفة رسولهم أُغرقوا فأُدخلوا نارًا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارًا، أي لم يكن لهم مجير من عذاب الله... اهـ " ( ).
* وبسببها سلَّط الله الريح على قوم عاد حتى ماتوا عن آخرهم، وأرسل الصيحة على قوم ثمود حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم :
قال تعالى : الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ( ) .
* وبسببها أرسل الله على قوم شعيب سحاب العذاب كالظُلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم نارًا تلظى :
قال الله – عز وجل - : فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ) .
* وبسببها أغرق الله فرعون وقومه في البحر :
قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى * فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ( ).
هذا هو الغرق الذي حاق بفرعون وقومه، فكما أنه تقدمهم فسلك بهم في البحر فأضلّهم وأغرقهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد، كذلك يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، فبئس الورد المورود( ).
* بسببها خسف الله بقارون وبداره وماله وأهله الأرض :
قال تعالى : فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ( ) .

أضرار المعاصي
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى : " من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة، ولقد تفكّرت في أقوام أعرفهم يقرون بالزنا وغيره, فأرى من تعثُرهم في الدنيا مع جلادتهم ( ) ما لا يقف عند حدّ، وكأنهم قد أُلبسوا ظلمة، فالقلوب تنفر عنهم، فإن اتسع لهم شيء فأكثره من مال الغير، وإن ضاق بهم أمر أخذوا يتسخطون على القدر، هذا وقد شُغلوا بهذه الأوساخ عن ذكر الآخرة..."اهـ( ).
وقال رحمه الله تعالى : " ولقد رايت أقوامًا من المترفين كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي الباطنة والظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا، فقلعت أصولهم، ونُقِضَ ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم، وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق – عز وجل – وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم، فدخلها من ماء الكيد ما أغرقهم... " ( ).
فاحذري أختي المسلمة عواقب المعاصي وأضرارها التي منها:
1- مزيلة للنعم، جالبة للنقم، مؤدية إلى الهلاك والدمار : لما ثبت عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا معشر المهاجرين ! خمسُ خصال إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدّة المؤنة، وجور السلطان من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم عدوَّهم من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»( ).
2- موجبة للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب، وتورث الهوان، وتوجب اللعنة من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، تزيل النعم، وتجلب النقم، وتلقي الرعب والخوف في القلوب، تُعمي البصيرة وتطبع عليها، وتسقط الكرامة وتوجب القطيعة، وتمحق البركة ما لم يتب العبد منها.
قال ابن المبارك – رحمه الله – مبيّنًا أضرار المعاصي :
رأيت الذنوب تميت القلوب

وقد يُورثُ الذُّلَّ إدمانُها

وترك الذنوب حياة القلوب

وخيرٌ لنفسك عصيانُها ( )

3- ومن أضرارها : حرمان العلم، حرمان الرزق، وحشة القلب، تعسير الأمور، وحشة يجدها بينه وبين الناس ظلمة في القلب، وهن في القلب والبدن، حرمان الطاعة، تمحق البركة، والمعصية تولد الأخرى، كثرة المعاصي تجعلها عادة، سببٌ لهوان العبد على ربه، تورث الذل، تذهب الحياء، تفسد العقل فإن للعقل نورًا والمعصية تطفئه، حرمان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إن تكاثرت طبع على قلب صاحبها وكان من الغافلين، إنها تزيل النعم وتحلّ النقم، تضعف في القلب تعظيم الربّ، تصرف القلب عن استقامته... اهـ ( ) .
* أختي المسلمة..
بالتفكر فيما سبق من أضرار المعاصي نلاحظ أن لبعضها أضرارًا حسيّة، ولبعضها أضرارًا معنوية، كما أن بعضها دنيوي، وبعضها أخروي.
فاحذري – أختاه – عقوبات المعاصي في الدنيا والآخرة، وبادري بالتوبة قبل الموت.

باب التوبة مفتوح
أختاه..
اعلمي – رحمني الله وإياك – أن الإنسان خُلِق ضعيفًا وعجولاً، وقُدّرت عليه الذنوب وجُبِل على المعاصي ( ) قال الله – عــز وجل - : وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( )، وقال الله – عز وجل - : وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ( ).
فالإنسان جُبل على الخطأ، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم » ( ).
وقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كُتِب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدركٌ ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويُصدِّق ذلك الفرج ويًكذِّبه»( )، فلما عصى آدم – عليه الصلاة والسلام – عصت ذريته، وجحد فجحدت ذريته لما أخرجه الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لمَّا خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال : أي ربِّ، من هؤلاء ؟.
قال : هؤلاء ذريّتُك.
فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال :
أي ربّ، من هذا ؟
فقال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له : داود.
فقال : رب كم جعلت عمره ؟
فقال : ستين سنة ؟
قال أي رب,زده من عمري أربعين سنة.
فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟
قال : أو لم تعطها ابنك داود ؟
قال : فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطىء آدم فخطئت ذريته »( ).
قلت : ولم يكن آدم – عليه السلام – يعرف أنه ملك الموت.
من أجل ذلك فتح الله أمام بني آدم باب التوبة آناء الليل وأطراف النهار، وجعل للتوبة بابًا مفتوحًا لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها"( ).
فباب التوبة مفتوح دائمًا في الليل والنهار، في الشتاء والصيف، فليس على الباب حرس أو حجاب بل هو باب " مفتوح يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب، لا يُصدُّ عنه قاصد، ولا يُغلق في وجه لاجئ، أيّا كان، وأيًّا ما ارتكب من الآثام " ( ).
بشرط أن تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها وقبل الغرغرة.
فالله – عز وجل – يفرح بتوبة التائبين، فهو – سبحانه وتعالى – يفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يُقدَّر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الإمامان البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى أشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال : ارجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده » ( ).
ما هي التوبة ؟
التوبة تعني : الرجوع من الذنب.
وتاب إلى الله : أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وتاب الله عليه : وفقه لها، ورجلٌ تواب : تائب إلى الله، وأصل تاب : عاد على الله ورجع وأناب، وتاب الله عليه: أي عاد عليه بالمغفرة ( ).
ومعنى التوبة شرعًا : هي العلم بعِظَم الذنب والندم عليه والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال.
فالتوبة – أختاه – أن تتركي الذنب مع العلم بقبحه، والندم على فعله، والعزم على ألاَّ تعودي إليه، وتؤدي ما ضيعت من الفرائض، إخلاصًا لله، ورجاء لثوابه، وخوفًا من عقابه، وذلك قبل حشرجة الروح في الصدر (الغرغرة) وقبل طلوع الشمس من مغربها.
والتوبة واجبة من كل ذنب، وقد دعا الله – عز وجل – جميع العباد إلى التوبة، مع اختلاف معاصيهم وعِظَم جرائمهم في حق الله تعالى دعا إليها المنافقين فقال – عز وجل - : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ( ).
بل دعا إليها من نسب إلى الله – عز وجل – الفقر، الذين قالوا : إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ( ).
وقالوا : يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ( ).
فقال الله – عز وجل – بعد أن ذكر حالهم : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ( ).
ودعا إليها المشركين كافة فقال – عز وجل - : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ( ).
ودعا إليها المسرفين على أنفسهم في المعاصي من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيرهم فقال : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( ).
كما دعا إليها أهل الإيمان وخيار الخليفة فقال – عز وجل – للصحابة بعد إيمانهم وهجرتهم وجهادهم وصبرهم : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( ).
قال مجاهد : من لم يتب كل صباح ومساء كان من الظالمين، قال الله – عز وجل - : وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( ).
أختاه.. لا تقنطي من رحمة الله
اعلمي أختاه أن القنوط من رحمة الله – عز وجل – كبيرة من الكبائر، فاحذري القنوط واليأس من رحمة الله، قال تعالى : قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ( ).
وقال الله – عز وجل - : إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( ).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه – عز وجل – قال : « أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال : اللهم, اغفر لي ذنبي، فقال – تبارك وتعالى - : أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال : أي رب, اغفر لي ذنبي، فقال – تبارك وتعالى - : عبدي أذنب ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال : أي رب, اغفر لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى - : أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت، فقد غفرت لك» ( ).
وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري من حديث عمر رضي الله عنه أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يُلقب حمارًا، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا قأُمر به فجُلد فقال رجلٌ من القوم، اللهم, العنه، ما أكثر ما يُؤتى به ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
« لا تلعنوه، فوالله ما ( ) علمت إنه يحب الله ورسوله » ( ) .
وتذكري – أختاه – دائمًا قول الله عز وجل : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( ).
فقد فهم الرعيل الأول من هذه الأمة هذه الآيات وغيرها من كتاب الله عز وجل فهمًا صحيحًا فضربوا لنا أروع الأمثال في التوبة والإنابة والرجوع إلى الله عز وجل وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل.
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث بريدة رضي الله عنه : أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تطهرني, فردَّه، فلما كان من الغد أتاه، فقال : يا رسول الله إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال : « أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا ؟ » قالوا : ما نعلمه إلا وافي العقل، من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة. فأرسل إليهم أيضًا، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرُجِم. قال : فجاءت الغامدية، فقالت : يا رسول الله، إني قد زنيت فطهّرني، وإنه ردَّها، فلما كان الغد، قالت : يا رسول الله، لِمَ تردّني ؟ لعلك أن تردّني كما رددت ماعزًا، فوالله إني لحُبلى، قــال : « أما لا، فاذهبي حتى تلدي». قال: فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت : هذا قد ولدته. قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه » فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت : هذا يا رسول الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها.
فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبَّها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبَّه إياها، فقال : « مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغُفر له » ( ).
ثم أمر بها فصلَّى عليها، ودُفِنت.
وفي رواية : فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله، رجمتها ثم تصلي عليها !! فقال : « لقد تابت توبة لو قُسِّمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم، وهل وجَدَتْ شيئًا أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل » ( ).
فتأمّلي – أختي المسلمة – ما كان من هذه المرأة فهي تعلم أن تطهيرها من هذه الكبيرة وهي الزنى الرجم بالحجارة حتى الموت، إلا أنها استشعرت قبح الذنب وضرره العظيم في الآخرة، فبادرت إلى التوبة والإنابة والرجوع إلى الله عز وجل، ولم تقنط من رحمة الله عز وجل، فمهما كان ماضي المسلم, فإن باب التوبة أمامه مفتوح، وعلى كل مسلم أن يفرح بها.

أختاه.. من يحول بينك وبين التوبة ؟
أختي المسلمة اللبيبة.. إياك أن تظني أن أحدًا يحول بينك وبين التوبة، فتأملي وتدبري قول الله عز وجل : وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ).
يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره : " إلا من تاب عن هذه المعاصي وغيرها، بأن أقلع عنها في الحال، وندم على ما مضى له من فعلها، وعزم عزمًا جازمًا ألاّ يعود، وآمن بالله إيمانًا صحيحًا، يقتضي ترك المعاصي، وفعل الطاعات، وعمِل عملاً صالحًا مما أمر به الشارع، إذا قصد به وجـه الله :
فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أي تتبدل أفعالهم، التي كانت مستعدة لعمل السيئات، تتبدل حسنات، فيتبدل شركهم إيمانًا، ومعصيتهم طاعة، وتتبدل نفس السيئات التي عملوها، ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة، وإنابة، وطاعة، تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية... " اهـ ( ).
وأذكِّرك – أختاه – بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من حديث أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة ؟ فقال لا، فقتله فكمّل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالم، فقال : إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ؟ فقال : نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
فقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرًا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكمًا – فقال : قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتها كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة » ( ).
أختاه, هذا رجلٌ قتل مائة نفس وتاب الله عليه، فلِمَ اليأس والقنوط من رحمة الله ؟.
وها أنا الآن وكأني أسمع صرخات صوتك قائلة : أريد ان أتوب.. أريد العودة إلى الله.. فكيف ؟ وهل للتوبة شروط ؟.
فتصفحي أختاه الصفحات التالية، فستجدي الإجابة الشافية إن شاء الله تعالى.
أريد أن أتوب.. فكيف ؟
أختاه.. إن أردت التوبة إلى الله عز وجل فابدئيها بالندم والعزم على عدم العودة إلى الذنوب مرة أخرى، خوفًا من الله سبحانه وتعالى، ثم فعل الحسنات المختلفة والطاعات التي أمر الله بها في كتابه القرآن الكريم، وما أمرك به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة.
واعلمي أن هناك صلاة تُسمى صلاة التوبة، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ( ركعتين ) ثم يستغفر الله إلا غفر الله له" ( ) » ثم قرأ هذه الآية : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، إني وجدت امرأة في بستان ففعلتُ بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبّلتها ولزمتها، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا فذهب الرجل. فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره، ثم قال : «ردُّوه عليّ » فردوه عليه فقرأ عليه : وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ فقال معاذ رضي الله عنه – وفي رواية عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، أَلهُ أم للناس كافة ؟ فقال : «بل للناس كافة»( ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع( ) ضيقة، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض» ( ).

شروط التوبة
ذكر العلماء رحمهم الله شروطًا للتوبة مأخوذة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، منها :
1- الإقلاع عن الذنب فورًا وأن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر، كمن فقد القدرة على فعله أو على معاودته الذنب مرة أخرى، كمن تعوّد الكذب فأصيب بمرض أفقده النطق فلا يُسمى تائبًا، وكذلك الزاني إذا أُصيب بمرض أفقده القدرة على الوقاع، فلا بد للتوبة من ندم والإقلاع عن المعصية بل أقول الإقلاع عن تمني المعصية.
2- الندم على فات : لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـــال : «الندم توبة» ( ).
3- العزم على عدم العودة إلى الذنب مرة أخرى.
4- إرجاع حقوق من ظلمهم، أو طلب البراءة منهم : لما أخرجه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من كانت لأخيه مظلمة من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن يُؤخذ منه يومَ لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أُخذ من سيئات صاحبه، فجُعلت عليه » ( ).
وقد ذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى للتوبة نلخصها فيما يلي ( ) :
* أن يترك التائب الذنب لله لا لشيء آخر.
* أن يستشعر التائب قبح الذنب وضرره.
* أن يبادر إلى التوبة فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة.
* أن يخشى على توبته من النقص.
* استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكنًا.
* أن يفارق من أعانه على المعصية.
* إتلاف المحرمات الموجودة عنده.
* أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء.
* أن تكون التوبة قبل الغرغرة وقبل طلوع الشمس من مغربها.

أمورتعينك على التوبة
أختاه.. بعد أن علمت شروط التوبة فإليك بعضًا من الأمور التي تعينك على العودة والإنابة إلى الله عز وجل.
1- الإخلاص لله رب العالمين : قال الله عز وجل : لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * ( ).
2- تذكرة الآخرة : لما ثبت عن ابن عمر– رضي الله عنهما – أنه كان يقول: " إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"( ).
3- المجاهدة : قال الله عز وجل : وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( ).
4- الدعاء وتعلق القلب بالله : فقد دعا نبي الله ابراهيم وابنه اسماعيل – عليهما السلام - : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ).
5- التفكر في أهوال يوم القيامة والقبور : هذا اليوم العظيم وصفه ربنا بأوصاف تنخلع لها القلوب، وتذهل لهولها العقول، فهو مرة الواقعة، وهو الحاقة، وهو الطّامة، وهو القارعة هو الصارخة.
ومع هذا فالناس في غفلة أو ي ريب إلا من رحم ربي.
فلو تذكر المسلم ما في ذلك اليوم من أهوال كان ذلك دافعًا وحافزًا له على العمل الصالح في السر والعلانية، وكذلك توبة صادقة إلى الله عز وجل.
6- التعرف على أضرار الذنوب والمعاصي والتفكر فيها :
وهذه سبق ذكرها في الصفحات السابقة.
علامات قبول التوبة ( )
أختاه.. هذه بعض علامات صحة التوبة إلى الله عز وجل :
* أن يكون حال التائب بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها.
* أن لا يزال الخوف مصاحبًا له لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه : أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ( ) فهناك يزول خوفه.
* انخلاع قلبه وتقطعه ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، وهذا تأويل ابن عُيينة لقوله تعالى : لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ( ). قال : تقطعها بالتوبة.
* كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب، ولا تحصل بجوع ولا برياضة ولا بحب مجرد، وإنما هي أمرٌ وراء هذا كله، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة عامة قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحًا ذليلاً خاشعًا، كحال عبد آبق من سيده فأُخذ فأُحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بدًا ولا عنه غناء ولا منه مهربًا، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدّة حاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه وقوة سيده، وذله وعز سيده، فيجتمع في هذه الأحوال كسرة وذلة وخضوع ما أنفعها للعبد.
كيف تقين نفسك من الوقوع في المعصية ؟
أختاه.. بعد أن علمت أضرار الذنوب والمعاصي وكذلك خطورة المعصية، هاكِ بعضًا من الأمور التي تقيك من الوقوع في المعصية.
أولاً : تقوى الله عز وجل :
فهي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، قال الله تعالى : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ( ).
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن».
وتقوى الله عز وجل أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله يخشى عقاب الله.
فعليك – أختي المسلمة – بتقوى الله عز وجل تقي نفسك الوقوع في معصية الله عز وجل.
ثانيًا : الاستغفار :
فقد رغّب النبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار فقال : « من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه, فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهــد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك»( ).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث الأغرّ المزني – رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنه ليُغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة»( ).
فليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة فكان صلى الله عليه وسلم يستغفر ربه ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»( ).
وتذكري أختاه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : « يا معشر النسـاء، تصدقّـن وأكثرن من الاستغفار، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار » قالت امرأة منهن : ما لنا أكثر أهل النار ؟
قال : « تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن ». قالت : ما نقصان العقل والدين ؟ قال : « شهادة امرأتين بشهادة رجل، وتمكث الأيام لا تصلي » ( ).
ثالثًا : ذكر الله عز وجل :
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قال : سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطّت خطاياه ولو كانت مثل زَبَد البحر » ( ).
فالذكر له فضل عظيم، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ألا أُنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ " قالوا : بلى. قال : " ذكر الله تعالى »( ).
وقال صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى : أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولةً »( ).
رابعًا مجالسة الأخوات الصالحات :
فالجليس له تأثير على جليسه سلبًا أو إيجابًا بحسب صلاحه وفساده، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة»( ).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه لصحيح مسلم : "فيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير والمروءة ومكارم الأخلاق والورع والعلم والأدب, والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة".
خامسًا : الإكثار من الأعمال الصالحة :
من فرائض ونوافل وصدقة والحج والعمرة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها مما أمر به الشرع الحنيف.
سادسا: التعرف على الأعداء الأخفياء وطريق الخلاص منهم:( )
بين الله عز وجل لعبده المسلم أن له أعداء تجره إلى الهلاك في الدنيا والآخرة إذا انقاد لها واتبعها فحذره إياها وبين له طريق الخلاص منها وهؤلاء الأعداء هم:
أولهم: الشيطان اللعين:
فهو عدو أبينا آدم وأمنا حواء الذي أخرجهما من الجنة وهو العدو الدائم لذرية آدم إلى نهاية الدنيا،يعمل جاهدا على إيقاعهم في الكفر بالله حتى يخلدهم الله معه في النار –والعياذ بالله- ومن عجز عن إيقاعه في الكفر عمل على إيقاعه في المعاصي التي تعرضه لغضب الله وعذابه.
والشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، يوسوس في صدره، ويزين له الشر حتى يوقعه فيه إذا أطاعه.
وطريق الخلاص منه كما بينه الله عز وجل هو أن يقول المسلم إذا أو هم بارتكاب معصية: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وأن يعلم أن دافع الشر الذي يحس به في نفسه إنما هو من الشيطان، لكي يوقعه في الهلاك ثم يتبرأ منه بعد ذلك قال الله عز وجل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ( ).
العدو الثاني الهوى:
ومنه ما قد يشعر به الإنسان من رغبة في رفض الحق، ورده إذا جاء به غيره ومن رغبة في رفض حكم الله تعالى ورده، لأنه خلاف ما يريد، ومن الهوى تقديم العاطفة على الحق والعدل.
وطريق الخلاص من هذا العدو هو أن يستعيذ العبد بالله تعالى من اتباع الهوى، وألا يستجيب لدافع الهوى فلا يتبعه، بل يقول الحق ويقبله، ولو كان مرا، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

العدو الثالث : النفس الأمّارة بالسوء :
ومن أمرها بالسوء ما يشعر به الإنسان في نفسه من رغبة في فعل شهوة محرمة، كالزنا وشرب الخمر، والفطر في رمضان بدون عذر مشروع، ونحو ذلك مما حرم الله.
وطريق الخلاص من هذا العدو هو أن يستعيذ بالله تعالى من شر نفسه، من الشيطان، ويصبر عن فعل هذه الشهوة المحرمة، ويكف عنها ابتغاء مرضاة الله، كما يصبر نفسه عن الأكل أو الشرب الذي يشتهيه، ولكنه يضره لو أكله أو شربه، ويتذكر أن هذه الشهوة المحرمة سريعة الزوال، وتعقبها حسرة وطول ندامة.
العدو الرابع : شياطين الإنس :
وهم عصاة بني آدم الذين لعب بهم الشيطان، وصاروا يفعلون المنكر ويزيّنونه لمـن يجالسهم. وطريق الخلاص من هذا العدو : هو الحذر منه والبعد عنه وعدم مجالسته.







صور من
حياة التائبين والتائبات


صور من حياة التائبين والتائبات
أختاه.. ما أجمل حياة التائبين وما أحلاها، وما أروع عيش المحبين لله وما أهنأه، فإنه لا أمان، ولا سعادة، ولا راحة.. إلا في ظل الإيمان بالله والتمسك بشرعه، فها هي إحدى التائبات إلى الله سبحانه وتعالى تقول :
" ما أحلى حلاوة الإيمان.. وعلى من تذوقها أن يدل الناس على سبيلها ".
وتقول أيضًا : " لم أكن أحيا قبل أن يهديني الله.. لقد شعرت بالحياة الحقيقية بعد الهداية ".
وإليك أختي المسلمة بعضًا من حياة التائبين والتائبات إلى الله عز وجل لتزدادي تمسكًا بدينه والتزامًا بشرعه سبحانه وتعالى.
توبة إلى الله على ظهر باخرة
هذه توبة الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى أنقلها لكِ أختاه من رسالة حوت العديد من حياة العائدين إلى الله تعالى من مشاهير وعلماء ودعاة, وغيرهم يروونها بأنفسهم ( ).
فقد نشأ سيد قطب – رحمه الله تعالى – في أسرة متدينة، متوسطة الثراء، في قرية صغيرة في صعيد مصر، وقد حرص والداه على تحفيظه القرآن الكريم في صغره، فما أتمّ العاشرة إلا وقد حفظه كاملاً.
ولما بلغ التاسعة عشرة عاش فترة من الضياع، وصفها بنفسه بأنها كانت ( فترة إلحاد ) حيث قال : " ظللت ملحدًا أحد عشر عامًا حتى عثرت على الطريق إلى الله، وعرفت طمأنينة الإيمان ".
وفي سنة 1948م غادر سيد القاهرة متوجهًا إلى أمريكا في بعثة لوزارة المعارف آنذاك، فكانت تلك الرحلة هي بداية الطريق الجديد الذي هداه الله إليه، ووفقه لسلوكه والسير فيه.
كان سفره على ظهر باخرة عبرت به البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.. وهناك على ظهر الباخرة، جرت له عدة حوادث أثرت في حياته فيما بعد، وحدّدت له طريقه، ولذلك ما إن غادر الباخرة في الميناء الأمريكي الذي وصل إليه، وما إن وطئت قدماه أرض أمريكا حتى كان قد عرف طريقه، وحدّد رسالته، ورسم معالم حياته في الدنيا الجديدة.
يقول سيد – رحمه الله - : " منذ حوالي خمسة عشر عامًا كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام، على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك، من بين عشرين ومائة راكب وراكبة ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة !.
والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشّر كان يزاول عمله على ظهر السفينة، وحاول أن يزاول تبشيره معنا !.
وقد يسّر لنا قائد السفينة – وكان إنجليزيًا – أن نقيم صلاتنا، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها وكلهم نوبيون مسلمون أن يصلي منهم معنا من لا يكون في " الخدمة " وقت الصلاة.
وقد فرحوا بهذا فرحًا شديدًا، إذ كانت هذه هي المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة.
وقد قمت بخطبة الجمعة، وإمامة الصلاة، والركاب الأجانب معظمهم متحلقون، يرقبون صلاتنا !
وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القداس!!)، فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا.
ولكن سيدة من هذا الحشد – عرفنا من بعد أنها يوغسلافية مسيحية ( ) هاربة من جحيم (تيتو) وشيوعيته – كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع، ولا تتمالك مشاعرها.. جاءت تشد على أيدينا بحرارة وتقول – في إنجليزية ضعيفة – إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه، وما فيها من خشوع، ونظام روح... إلخ ( ).
وبعد ذلك كله.. وفي ظلال هذه الحالة الإيمانية، راح سيد قطب يخاطب نفسه قائلاً : " أأذهب إلى أمريكا وأسير بها سير المبتعثين العاديين، الذين يكتفون بالأكل والنوم، أم لا بد من التميّز بسمات معينة ؟!.
وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه، والالتزام بمناهجه في الحياة وسط المعمعان المترف المزود بكل وسائل الشهوة واللذة الحرام ؟ ".
قال : " وأردتُ أن أكون الرجل الثاني المسلم (المسلم الملتزم)، وأراد الله أن يمتحنني هل أنا صادق فيما اتجهت إليه أم هو مجرد خاطرة ؟ !.
وكان ابتلاء الله لي بعد دقائق من اختياري طريق الإسلام، إذ ما إن دخلت غرفتي حتى كان باب الغرفة يقرع.. وفتحت.. فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة، فارعة الطول، شبه عارية، وبدأتني بالإنجليزية قائلة : هل يسمح لي سيدي بأن أكون ضيفة عنده هذه الليلة ؟
فاعتذرت بأن الغرفة معدة لسرير واحد، وكذا السرير لشخص واحد.
فقالت : وكثيرًا ما يتسع السرير الواحد لاثنين!.
واضطررتُ أمام وقاحتها ومحاولتها الدخول عنوة, لأن أدفع الباب في وجهها لتصبح خارج الغرفة، وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية في الممر، فقد كانت مخمــورة.
فقلت : الحمد لله.. هذا أول ابتلاء.. وشعرت باعتزاز ونشوة، إذا انتصرت على نفسي.. وبدأتْ تسير في الطريق الذي رسمتُه لها... " ( ).
مهاجرة إلى الله ( هناء ثروت ) ( )
هناء ثروت ممثلة مشهورة، عاشت في "العفن الفني" فترة من الزمان، ولكنها عرفت الطريق بعد ذلك فلزمته، فأصبحت تبكي على ماضيها المؤلم.
تروي قصتها فتقول :
" أنهيت أعمالي عصر ذاك اليوم، وبعد أن اطمأننتُ على أولادي، وقد بدءوا في استذكار دروسهم، جلست في الصالة، وهممتُ بمتابعة مجلة إسلامية حبيبة على نفسي، ولكن شيئًا ما شدّ انتباهي، أرهفتُ سمعي لصوت ينبعث من إحدى الغرف، وبالذات من حجرة ابنتي الكبرى، الصوت يعلو تارة ويغيب بعيدًا تارة أخرى.
نهضت بتعجُّل لأستبين الأمر، ثم عدتُ إلى مكاني باسمة عندما رأيتُ صغيرتي ممسكةً بيدها مجلدًا أنيقًا تدور به الغرفة فرحة، وهي تُلحِّن ما تقرأ، لقد أهدتها إدارة المدرسة ديوان (أحمدشوقي) لتفوقهــا في دراستها، وفي لهجة طفولية مرحة كانت تردد :
خدعوها بقولهم حسناء
والغواني يغرهُنّ الثناءُ

لا أدري لماذا أخذت ابنتي في تكرار هذا البيت، لعلَّه أعجبها.. وأخذت أردده معها، وقد انفجرت مدامعي تأثرًا وانفعالاً، أناملي الراعشة تضغط بالمنديل الورقي على الكرات الدمعية المتهطلة كي لا تفسد صفحات اعتدت تدوين خواطري وذكرياتي في ثناياها، وصوت ابنتي لا يزال يردد بيت شوقي ( خدعوها.. ) ؟ !.
نعم، لقد مُورست عليَّ عمليات خداع، نصبتها أكثر من جهة.
تعود جذور المأساة إلى سنوات كنتُ فيها الطفلة البريئة لأبوين مسلمين، كان من المفروض عليهما استشعار المسئولية تجاه وديعة الله لديهما – التي هي أنا – بتعهُّدي بالتربية وحُسن التوجيه وسلامة التنشئة، لأغدو بحقٍّ مسلمة كما المطلوب، ولكن اسأل الله أن يعفو عنهما.
كانا منصرفين، كلُّ واحد منهما لعمله، فأبي – بطبيعة الحال – دائمًا خارج البيت في كدحٍ متواصل تاركًا عبء الأسرة لأمي التي كانت بدورها موزعة الاهتمامات ما بين عملها الوظيفي خارج المنزل وداخله، إلى جانب تلبية احتياجاتها الشخصية والخاصة، وبالطبع لم أجد الرعاية والاعتناء اللازمين حتى تلقفتني دور الحضانة، ولَمَّا أبلغ الثالثة من عمري، كنت أعيش في قلق وتوتر وخوف من كل شيء، فانعكس ذلك على تصرفاتي الفوضوية الثائرة في المرحلة الإبتدائية في محاولة لجذب الانتباه إلى شخصي الْمُهمَل (أسريًا)، بَيْدَ أن شيئًا ما أخذ يلفت الأنظار إليَّ بشكل متزايد.
أجل، فقد حباني الله جمالاً ورشاقة وحنجرة غريدة، جعلت معلمة الموسيقى تلازمني بصفة شبه دائمة، تستعيدني الأدوار الغنائية – الراقصة منها والاستعراضية – التي أشاهدها في التلفاز، حتى غدوت أفضل من تقوم بها في الحفلات المدرسية، ولا أزال أحتفظ في ذاكرتي بأحداث يوم كُرِّمتُ فيه لتفوقي في الغناء والرقص والتمثيل على مستوى المدارس الإبتدائية في بلدي، احتضنتني ( الأم ليليان)، مديرة مدرستي ذات الهوية الأجنبية، وغمرتني بقبلاتها قائلة لزميلة لها: لقد نجحنا في مهمتنا، إنها – وأشارت إليّ – من نتاجنا، وسنعرف كيف نحافظ عليها لتكمل رسالتنا! ( ).
لقد صوَّر لي خيالي الساذج آنذاك أني سأبقى دائمًا مع تلك المعلمة وهذه المديرة، وأسعدني أن أجد بعضًا من حنان افتقدته، وإن كنتُ قد لاحظتُ أنَّ عطفها من نوعٍ غريب، تكشف لي أبعاده ومراميه بعدئذ، وأفقتُ على حقيقة هذا الاهتمام "المستورد"!
صراحة، لا أستطيع نكران مدى غبطتي في تلك السنين الفائتة، وأنا أدرج من مرحلة لأخرى، خاصة أن تبنَّاني أحد مخرجي الأفلام السينمائية كفنانة(!) دائمة وسط اهتمام إعلامي كبير بي! كما أخذت أمي تفخر بابنتها الموهوبة (!) أمام معارفها وصويحباتها، وتكاد تتقافز سرورًا وهي تتملَّى صوري على شاشة التلفاز، جليسها الدائم.
كانت تمتلكني نشوة مسكرة، وأنا أرفل في الأزياء الفاخرة والمجوهرات النفيسة والسيارات الفارهة، كانت تطربني المقابلات والتعليقات الصحفية ورؤية صوري الملونة وهي تحتلُّ أغلفة المجلات وواجهات المحلات، حتى وصل

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire