lundi 4 mars 2013

آداب خروج المرأة من البيت

آداب
 خروج المرأة من البيت






تأليــف
محمود بن محمد عبد المنعم بن عبد السلام العبد











آداب
خروج المرأة من البيت



حقوق الطبع لكل مسلم
الطبعة الأولى
1431هـ ـ 2010م










مقدمة

الحمد لله الذي خلق خلقه من تراب، وفتح عليهم الرزق والنعماء من كل باب، وعلمهم البيان والحكمة وفصل الخطاب، وحذرهم من كل ما فيه نقص وعاب، وأرشدهم إلى ما فيه الهدى والصواب، ومَنَّ عليهم بقبول كل من رجع إليه وتاب، وأكرمهم بالرضا عن كل من أسلم له وأناب، فما أحلمه وهو الرحيم التواب، وما أعظمه وهو الكريم الوهاب.
والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للعالمين، وجعله إمامًا للمتقين، وأسوة للصالحين، فخلَّص نسبه وجعله أطهر الأنساب، ودعاه بأحسن الأسماء وأشرف الألقاب، وزينه بحسن الخلق وأكمل الآداب، واختار له من الخلق أفضل الأصحاب؛ فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حتى أتاه اليقين.
أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الواحد الحق المبين، وأشهد أن محمدًا  عبده ورسوله، النبي المصطفى الأمين.
وبعد، فإن الله قد شرع لعباده سنن الهدى، ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، فتتحقق بذلك مصالحهم الدنيوية والأخروية.
ولكمال علمه بخلقه شرع لهم من الآداب ما يحفظ عليهم الفضيلة، ويمنع عنهم الرذيلة، لتنشرح بالحق صدورهم، وتصفو من الأدناس حياتهم؛ فترقى في الخير نفوسهم، وتزكو بالفضائل أخلاقهم، ولا أحد أعلم بالخلق وما يصلحهم من ربهم وخالقهم سبحانه ﴿ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
إلا إن أعداء هذه الأمة المرحومة، سواء كانوا من داخلها أو خارجها، دائمًا ما يلبسون عليهم الحق بالباطل، حسدًا من عند أنفسهم، وابتغاء الفتنة بين المسلمين، وقد شهروا عليهم سيفًا لن يخمدوه في غمده حتى يرجع الناس إلى ربهم، فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون.
فأصبح لزامًا على كل مسلم ومسلمة، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، أن يتفقه في أمور دينه، ويأخذ أحكام الشرع بقوة وحزم، ويستقيم على الحق بإصرار وعزم.
ولا شك أن من أعظم ما ابتليت به الأمة الإسلامية في الآونة الأخيرة، رجوع كثير من النساء إلى أخلاق الجاهلية الأولى التي نهاهن الله عنها بقوله: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، إما تقصيرًا منهن في حق خالقهن ورازقهن سبحانه، وإما جهلاً منهن بأمور دينهن، وإما اتباعًا لموضة آثمة، أو انبهارًا بامرأة حقيرة تافهة، أو انسياقًا لدعوة ناعق من دعاة الفسق والفجور.
ومع كل هذا، فلا تزال طائفة من الأمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، يتمسكون بالحق ويدافعون عنه ويدعون إليه، وبذلك جاء الأثر، وورد إلينا صحيح الخبر.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»( ).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه عن النبي  أنه قال: «لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة»( ).
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله  يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس»( ).
فكثير من نساء المسلمين في ظل هذه الفتن يلتزمن الآداب الإسلامية، ويقتفين آثار الصالحات من نساء سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، فلا تغرهن دنيا زائلة، ولا شهرة مبهرة، ولا صحبة حائرة، ولا تصدهن عن الحق كلمة استهزاء وسخرية من زائغ غافل القلب ضال.
وواجب على كل مسلم غيور على دينه، أن يحارب ما انتشر بين الناس من قصور، ويتصدى لما وقع من فسق وفجور، ويسعى للنصيحة وإصلاح الخلل.
وحق على علماء المسلمين الإيضاح والتبيين، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187].
لهذا جاء هذا الكتاب، قيامًا بالواجب ونصحًا للخلق، والله أسأل التوفيق والقبول، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، موجبًا لرضوانه العظيم، وأن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره، والعامل بما فيه من خير، وسائر الخلق أجمعين، وأن يجعله سببًا في دحر الفساد، وبيان الحق وهداية العباد، إنه سبحانه وتعالى خير مأمول، وأكرم مسئول.

          

باب
في بيان استحباب قرار النساء في البيوت

قال الله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33].
فأمر نساء المؤمنين بلزوم البيوت والعيش فيها بوقار وسكينة وهدوء، وألا يخرجن منها إلا لضرورة؛ لأن في ذلك شرفًا لهن وحفظًا لأعراضهن وصيانة لكرامتهن؛ بل إن في ذلك أيضًا صلاح الأسرة والمجتمع كله.
فالبيت هو مملكة المرأة، وقلعتها التي تمارس فيها أشرف وظائفها في الحياة، بعيدًا عن أيدي العابثين وأعين الفاسقين.
كما نهاهن سبحانه وتعالى عن التبرج، وهو إظهار ما ينبغي ستره من المحاسن الظاهرة كاللباس والحلي، أو المفاتن الباطنة كالتغنج في الكلام والتكسر في المشية وإظهار بعض الجسم، وأخبر أن ذلك كله من فعل الجاهلية الأولى الذي يجب على كل مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تجتنبه.
والمرأة القارَّة في بيتها مرغوب فيها، محببة إلى القلب، بخلاف البرزة كثيرة الخروج، فهذه صفة من أحسن صفات حور الجنة، كما قال تعالى: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ [الرحمن: 72] أي محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن.
ومما يدل على استحباب قرار المرأة في بيتها أن الصلاة وهي خير موضوع، وأوجب الفرائض بعد الشهادتين، يستحب للمرأة أن تؤديها في بيتها، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد، حتى ولو كان مع النبي ، فعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنها أنها جاءت النبي  فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك، فقال : «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير لك من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير لك من صلاتك في مسجدي»، قال: فأمرت، فبني لها مسجد في أقصى شيء يعني بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل( ).
فكان خروج النساء في زمن النبي  حتى إلى المساجد قليل، ولذلك صح عن أم عطية رضي الله عنها أنها قالت: أُمِرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، ويعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال : «لتلبسها صاحبتها من جلبابها»( ).
ولقد حرص نساء السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهن على امتثال أمر الله تعالى أتم الامتثال وأكمله، فرفع الله قدرهن، وأعلى ذكرهن، وجعلهن قدوة يحتذى بهن.
فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها روي عنها أنها كانت إذا قرأت هذه الآية؛ يعني قوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾؛ تبكي حتى تبل خمارها( ).
وذكر أن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟، فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرِجت جنازتها( ).
وروى الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  قال لنسائه عام حجة الوداع: «هذه ثم ظهور الحصر» يعني الزمن ظهور الحصر بعد هذه الحجة ولا تخرجن من البيوت، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فكُنَّ كُلُّهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة، وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي ( ).
وليس هذا في زوجات النبي  فحسب، بل سائر الصالحات على ذلك، قال ابن العربي رحمه الله: لقد دخلت نيفًا على ألف قرية فما رأيت نساءً أصون عيالاً ولا أعف نساءً من نساء نابلس، التي رُميَ بها الخليل  بالنار؛ فإني أقمت فيها، فما رأيت امرأة في طريق نهارًا، إلا يوم الجمعة؛ فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه.اهـ( ).
ولا يعني ذلك أن المرأة لا تخرج من بيتها، فإن لها خارج البيت حاجات كما أن للرجال حاجات، فقد تحتاج إلى طلب علم، أو تعليم بنات جنسها، أو دعوة إلى الله تعالى، أو صلة رحم، أو غير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية، ولكن الأصل هو قرار المرأة في بيتها، وعدم خروجها إلا لحاجة، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، واستقر في نفوسهم.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت سودة بنت زمعة ليلاً، فرآها عمر فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي  فذكرت ذلك له وهو في حجرتي يتعشى، وإن في يده لعرقًا، فأنزل الله عليه، فرفع عنه وهو يقول: «قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن»( ).
فهذا من رحمة الله تعالى بنساء المسلمين، أن أذن لهن أن يخرجن لحوائجهن، فمتى أخذت المرأة برخصة الله تعالى لها في الخروج فلتلتزم أمره، ولتجتنب نهيه، فإنها ما لم تفعل ذلك أضاعت كرامتها، وأفنت هيبتها، فصارت هدفًا لكل فاسق، ومطمعًا لكل ناعق، ففتنت نفسها، وفتن بها غيرها، فضلاً عن وقوعها في الإثم واستحقاقها الوعيد الشديد؛ فلتتق المرأة ربها، ولتراجع نفسها.

          

باب
في ذكر جملة من الآداب التي ينبغي للمرأة
أن تلتزمها إذا أرادت الخروج من البيت

وردت في الكتاب والسنة آداب وضوابط للمرأة إذا أرادت الخروج من البيت، وهذه الآداب إما واجبات أمر الله بها، أو مستحبات حث الشرع عليها، أو فضائل ومكرمات دعا إليها،أو محرمات نهى الله عنها.
فمن هذه الآداب: أن يكون خروجها لحاجة أو ضرورة، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله  قال: «إن الله قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن»( ).
والحاجة والضرورة قد تختلف من امرأة لأخرى، ومن مجتمع لآخر، ومن زمن لغيره، والضرورة تقدر بقدرها.
فيجوز لها مع الحاجة أن تخرج لطلب العلم وتعليمه، والدعوة إلى الله تعالى، أو لصلة الرحم، أو لزيارة الوالدين أو صويحباتها، أو للعمل والبيع والشراء إذا لم يوجد من يكفيها المؤنة، ونحو ذلك.
فإن الخطاب الوارد بالحث على القربات المذكورة وغيرها يدخل فيه الرجال والنساء، باستثناء ما دلَّ الدليل على اختصاص الرجال به دون النساء.
وينبغي للزوج وولي أمر المرأة أن يوفر للمرأة ما تستغني معه عن الخروج، ويكفيها مؤنة الكد والكدح خارج البيت ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ما لم يفض ذلك إلى ترك واجب أو فعل محرم، وعليه أن يبتغى بذلك وجه الله تعالى، فإنه من حسن المعاشرة التي أمر الله بها بقوله: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19] ومن الخيرية التي أثنى النبي  على أهلها بقوله: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»( ).

فصل في إذن الولي

ومنها: أن يكون خروجها بإذن زوجها أو وليها، فلا يجوز للمرأة أن تخرج إلا إذا أذن لها زوجها، فإن لم تكن ذات زوج فإذن وليها.
فيجب عليها الاستئذان حتى ولو كان خروجها إلى المسجد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي  أنه قال: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن»( ). وعنه قال: «إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهن»( ).
ويجب على المرأة أن تطيع زوجها فيما يأمرها به من غير تبرم، ويحرم عليها أن تضايقه أو أن تلح عليه حتى يمل فيأذن لها، فإن هذا أخذ شيء بغير طيب نفس من صاحبه، ولن يعود هذا الخروج على المرأة بخير في الدنيا ولا في الآخرة.
ويُنصَح الزوج بألا يمنع زوجته من الخروج لشهود الخير، كحضور دروس العلم بالمساجد ونحو ذلك، خاصة في هذه الأيام التي قل فيها الأعوان على الخير، وكثرت فيها حاجة الناس إلى من يعلمهم أمر دينهم، وذلك ما لم يترتب على هذا الخروج تضييع واجب أو يخشى من حدوث مفسدة، والأمر في تقدير المصلحة والمفسدة يرجع إلى الزوج باعتباره القوام على أهله والراعي المسئول عن رعيته.


فصل في الحجاب

ومنها: أن تكون ملتزمة بالحجاب الذي فرضه الله تعالى على نساء المؤمنين، ولهذا الحجاب صفات لابد من تحققها:
أولاً: أن يكون ساترًا لجميع بدن المرأة على الراجح من أقوال أهل العلم، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ…﴾ [الأحزاب: 59] وإدناء الجلباب يدل على ستر جميع البدن.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز كشف الوجه والكفين، وقيدوا ذلك بضوابط:
منها: أن تؤمن الفتنة على المرأة والفتنة بها، فمتى لم تؤمن الفتنة وجب عليها ستر وجهها وكفيها؛ لأن الأمر بالحجاب وستر الوجه إنما هو لمنع الفتنة وسد الذريعة إليها، فمتى وجدت الفتنة وجب منعها بمنع أسبابها وسد الذرائع إليها.
ومنها: ألا تبدي المرأة شيئًا من الزينة في وجهها وكفيها، فلا يجوز لها إظهار القرط أو الخاتم أو التزين بالمساحيق في الوجه والكفين، ولا غير ذلك من صور الزينة التي تكون في الوجه أو الكفين، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33] ولا شك أن فعل ذلك إنما هو محض التبرج، ولما رخَّص الله للقواعد من النساء في وضع الثياب قال: ﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ [النور: 60].
ومنها: ألا يكون الفساد منتشرًا بين أوساط أكثر الناس، أو يكثر الفساق الذين لا يتورعون عن النظر إلى وجه المرأة والتلذذ به.
وأصحاب هذا القول لا يختلفون في استحباب ستر المرأة وجهها وكفيها على كل حال؛ لأنه أستر للمرأة وأطهر لقلبها وأصون لعرضها وأرضى لربها، وهو سبيل المؤمنات وطريق الصالحات، حتى إن الله سبحانه وتعالى بعد أن رخص للقواعد من النساء اللاتي لا يُشتَهى مِثلُهن، في أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، حثَّهُنَّ على أن يستعففن عن ذلك بستر وجوههن وسائر جسدهن قال سبحانه: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ [النور: 60].
وعلى ذلك لا يجوز للمرأة أن تكشف قدمها أمام الرجال الأجانب عنها، فضلاً عن أن تكشف شيئًا من ساقها؛ بل يستحب لها أن تطيل ذيل ثوبها، وعلى ذلك كان حرص نساء الصحابة رضي الله عنهن، الصالحات العفيفات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : من جَرَّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر الله إليه، قالت أم سلمة: يا رسول الله، فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ قال: «يرخينه شبرًا» قالت: إذًا تنكشف أقدامهن، قال: «فترخينه ذراعًا لا تزدن عليه»( ).
ثانيًا: ألا يكون مشابهًا للباس الرجال؛ فإن النبي  قد لعن من فعل ذلك، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الهف  المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال( ).
فيحرم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال سواء كان ذلك في الحركات أو المشية أو طريقة الكلام أو اللباس أو الزينة، وغير ذلك.
بل قد ورد اللعن على التشبه في اللباس خاصة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله  الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل( ).
وعلى هذا، فلا يجوز للمرأة إذا خرجت أن يكون حجابها مما يخص الرجال من الثياب كالإزار والرداء وما يعرف بالجاكيت، وكذلك البنطلون ونحو ذلك، حتى لو ادعى مدعٍ أن شيئًا من هذه الأشياء أكثر سترًا لهن وأيسر لحركتهن.
وأما ما تلبسه نساء بعض البلاد من سراويل واسعة فضفاضة على صورة خاصة بالنساء مع عدم وصفها لشيء من بدن المرأة أو تحديد لحجم أعضائها فهذه لا حرج فيها، خاصة لو كانت تدلي عليها من أعلى جسمها ما يسترها إلى نصف الساق، والله أعلم.
ثالثًا: ألا يكون مشابهًا للباس الكفار ولا ما اشتهر به طائفة من أهل الفسق، وهذا مقصد عظيم من مقاصد الشريعة الإسلامية، التي تريد لأتباعها أن يكون سمتهم الظاهر والباطن مبنيًا على اعتقادهم الصحيح، وأن يكونوا قادة في كل خير، لا أن يكونوا أتباعًا لقوم لا يعلمون، اتبعوا أهواءهم فكفروا بربهم، وأخذوا هديهم الظاهر من اعتقادهم الباطن الخبيث، فضلوا وأضلوا، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكفار في شيء من الأمور الأصلية أو الفرعية، قال سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «ومن تشبه بقوم فهو منهم»( ).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأى رسول الله  عليَّ ثوبين معصفرين فقال: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها»( ).
ولقد كان النبي  يتحرى مخالفة الكفار حتى ولو كانوا أهل كتاب، حتى عرف اليهود الذين كانوا يعيشون في مدينة رسول الله  ذلك، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه( ).
والمقصود هنا ترك التشبه بالكفار فيما هو مِن زيهم ولباسهم الذي اشتهر أنه علامة على دينهم، أما ما يكون من صنعهم فلا يدخل في ذلك. والله أعلم.
رابعًا: ألا يكون لباس شهرة، ولباس الشهرة: هو كل لباس يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء كان الثوب نفيسًا تلبسه المرأة تفاخرًا وتكبرًا، أو خسيسًا تلبسه زهدًا ورياءً.
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة، ثم ألهب فيه نارًا»( ).
ويستحب ترك الرفيع من الثياب تواضعًا لله، ولو كان المرء يقدر عليه.
فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «من ترك اللباس تواضعًا لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها»( ).
ولا يعني ذلك أن تلبس المرأة الحقير من الثياب وتترك الحسن وهي تقدر عليه، وتلبس المرقع، فإن الله تعالى قال: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 11].
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله : «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»( ). ولكن ينبغي أن تكون ثياب المرأة من أوسط الثياب، بحيث إذا كانت بين الأغنياء لم تظهر أنها دونهم، وإذا كانت بين الفقراء لم تظهر أنها أرفع منهم، والله أعلم.
خامسًا: أن يكون صفيقًا لا يشف؛ لأن الستر لا يتحقق إلا بذلك، وأما الشفاف الذي يبين ما تحته فإنه يزيد المرأة فتنة، ومَن تلبس هذه الثياب وتبرز بها أمام الرجال الأجانب عنها فإنها ملعونة بقوله : «سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات، على رءوسهن كأسنمة البخت، العنوهن فإنهن ملعونات»( ).
وهي أحد الصنفين اللذَين أخبر عنهما النبي  بأنهما من أهل النار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا»( ).
وعن دحية الكلبي رضي الله عنه قال: أُتي النبي  بقباطي فأعطاني قبطية وقال: «اصدعها صدعين: فاقطع أحدهما قميصًا، وأعط الآخر امرأتك تختمر به»، فلما أدبر قال: «وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبًا لا يصفها»( ). والقبطية ثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء.
وعن أم علقمة بن أبي علقمة قالت: رأيت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها خمار رقيق يشف عن جبينها، فشقته عائشة عليها وقالت: أما تعلمين ما أنزل الله في سورة النور، ثم دعت بخمارها فكستها( ).
سادسًا: أن يكون فضفاضًا واسعًا، حتى لا يصف شيئًا من جسم المرأة أو بعض أعضائها؛ وذلك لأن من مقاصد الحجاب ستر المرأة، سواء في ذلك ستر لون البشرة أو حجم الأعضاء، وهذا الضيق لا شك أنه ينافي الستر المقصود من الحجاب، والفتنة به عظيمة.
روي عن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله  قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: «ما لك لم تلبس القبطية؟» قلت: كسوتها امرأتي، فقال: «مرها فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف حجم عظامها»( ).
والغلالة هي شيء يُلبَس تحت الثوب حتى لا يحدد البدن أو بعض أعضائه.
وعلى هذا فلا يجوز لبس ما يكون مبينًا لحجم الأعضاء، مثل ما يكون قابضًا على اليدين أو الرجلين، وكذلك ما يكون ضيقًا بحيث إذا خطت المرأة خطوة التصق بساقها فحدده، ومن هذا القبيل ما يعرف الآن بالعباءات المخصرة التي تكون ضيقة عند خصر المرأة (وسطها) وكذلك الثياب المصنوعة من خامات معينة من طبيعتها الليونة، فتنثني على الجسم فتحدد حجم أعضائه، والله أعلم.
سابعًا: ألا يكون زينة في نفسه، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33]، والتبرج هو إظهار ما يجب على المرأة ستره، من محاسن ومفاتن تثير بها شهوة الرجال. وهو من الفواحش التي بايع النبي  النساء على تركها، وجعله قرينًا لأعظم الكبائر، من الشرك بالله والزنى والسرقة وغيرها، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله  تبايعه على الإسلام فقال: «أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تتبرجي تبرج الجاهلية الأولى»( ). وإذا كان الله تعالى قد نهى النساء أن يضربن بأرجلهن حتى لا يُعلَم ما يخفين من زينتهن، فكذلك كل ما يكون سببًا في لفت أنظار الرجال، وإثارة شهواتهم، لا يجوز للمرأة أن تخرج به ولا أن تلج به أوساط الرجال.
وعلى ذلك لا يجوز للمرأة حال خروجها أن تلبَس المزخرف والمطرز وذوات التفصيلات الجذابة والألوان الخلابة، فإن المقصود من الحجاب هو ستر زينة المرأة، حتى لا تلفت الأنظار وتجلب الأبصار، فكيف يكون هو في نفسه زينة.
وكلما كان اللباس أكثر سترًا، كان أفضل وأعظم أجرًا؛ لذلك يستحب للمرأة لبس القاتم من الثياب وأفضله الأسود، فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: لما نزلت هذه الآية ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها( ).

فصل في الاختلاط

ومنها: أن تجتنب الاختلاط( ) المستهتر بالرجال، وهذا من أعظم ما يترتب على خروج النساء من المفاسد، فإنك لا تكاد تجد موطنًا إلا وقد أصابه هذا الداء، فتجد الاختلاط في التعليم في المدارس والجامعات، والاختلاط في العمل والاختلاط في الأفراح والمناسبات والاجتماعات، والاختلاط في وسائل المواصلات، وفي الأسواق والمحلات.
ولقد تسبب الاختلاط في كثير من المصائب في المجتمع، مثل التفكك الأسري، وانتشار الزواج العرفي، والانحلال الأخلاقي، وضياع الدين والقيم والمبادئ والمروءات.
ولقد جاءت نصوص الشريعة محذرة من الاختلاط بين الرجال والنساء، ومبينة أن ذلك من الشر بمكان حتى ولو كان ذلك في المساجد، التي هي موطن الطهارة والنقاء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»( ).
كما أن النبي  قد أمر النساء أن يبتعدن عن الاختلاط بالرجال في الطرقات، فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله  يقول وهو خارج من المسجد، وقد اختلط النساء مع ا لرجال في الطريق: «استأخرن، فليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق»( )، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
ومن حُسن ديانة الرجل وغيرته على نسائه أن يمنعهن من الاختلاط بالرجال، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما تغارون أن تخرج نساؤكم، فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج( ).
ومن حرص الإسلام على منع هذا الأمر المستنكر، أنه أمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع إذا بلغوا عشر سنوات، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»( ).

فصل في الخلوة

ومنها: ألا تخلو برجل أجنبي عنها، والخلوة هي: أن ينفرد الرجل بامرأة في غيبة من أعين الناس.
وهذا من أعظم الذرائع وأقرب الطرق إلى الوقوع في الفاحشة، حيث تتقد نار الشهوة، ويسعرها الشيطان الذي يكون ثالثهما.
ولقد ورد النهي صريحًا عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله  يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم»( ).
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»( ).
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي  قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان»( ).
وكلما كان دخول الرجل على المرأة الأجنبية عنه أسهل، كلما كانت الحيطة في منعه أولى والتحذير منه أشد، كأن توجد صلة قرابة بالمرأة أو زوجها، كابن العم وابن الخال وابن العمة وابن الخالة، وأخو الزوج ونحوهم، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «إياكم والدخول على النساء»، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو، قال: «الحمو الموت»( ).
والحمو هو قريب الزوج الذي لا يحل للمرأة، وشبهه النبي  بالموت لعظم أثره وكبر ضرره.
وكذلك لا يجوز للمرأة أن تخلو برجل أجنبي مع وجود من لا يُستَحيا منه، ولا يُتَّقى وجوده لصغر سنه ونحوه؛ فإن وجوده كالعدم.
والنهي عن الخلوة بالأجنبية عامٌّ، يدخل فيه الصالحون وغيرهم، ويستوي فيه المسنون والعجائز ومَن دونهم ممن يشمله هذا الحكم.
ولقد كان السلف الصالح، مع ما كانوا عليه من التقوى والعلم، يحذرون من ذلك، ويخافون على أنفسهم، فهذا يوسف بن أسباط كان يقول: لو ائتمنني رجل على بيت مال لظننت أن أؤدي إليه الأمانة، ولو ائتمنني على زنجية أن أخلو معها ساعة واحدة ما ائتمنت نفسي عليها.
وكان الحسن يقول: لا تخلون بامرأة ولو حدثتك نفسك أن تعلمها القرآن.
فلا اعتبار لما يدعيه البعض من حسن النية، والثقة؛ فإن الأمر أعظم من ذلك، والشرع لم يستثن في هذا الحكم أحدا، والشيطان لابن آدم بالمرصاد، يجري منه مجرى الدم.
لا يأمنن على النساء أخ أخًا
إن الأمين وإن تعفَّف جهده
        ما في الرجال على النساء أمين
لابد أن بنظرة سيخون

ومن صور الخلوة التي انتشرت في مجتمعاتنا الخلوةُ في العمل على اختلاف صورها والخلوة في المحلات التجارية، والخلوة مع السائق في السيارة، والخلوة في المصاعد الكهربية، والخلوة في الدروس الخصوصية، وكلها محرمة في دين الله، والله أعلم.

فصل في التعطر

ومنها: أن تكون مبتذلة غير متعطرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليَخرجن وهُنَّ تَفِلات»( ) أي غير متعطرات.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة»( ).
وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: قال لنا رسول الله : «إذا شهدت إحداكن العشاء فلا تمس طيبًا»( ).
ولعل النبي  خصَّ العشاء بالذكر في هذه الأحاديث؛ لأن غالب أحوال النساء قديمًا أنهن كُنَّ لا يخرجن من البيوت إلا بالليل، حيث لا يراهن الرجال، فخرج الحديث مخرج الغالب، أو أنهن كن يتطيبن بالليل لفراغهن من العمل، أو ليصلحن من حالهن لأزواجهن، فيأتي عليهن وقت صلاة العشاء وهن متطيبات، وقال بعض العلماء: إنما خصَّ العشاء بالذكر لأن مظنة الفتنة في هذا الوقت أكثر من غيره؛ لأنها وقت الظلمة وخلوة الطريق، والعطر يهيج الشهوة، فلا تأمن المرأة في هذا الوقت من الفتنة، والله أعلم.
فإذا كان النهي قد ورد صريحًا عن تعطر المرأة عند خروجها إلى المساجد وهي خير بقاع الأرض، وأبعدها مظنة للفتنة، فلا شك أن النهي عن تطيبها عند خروجها إلى غير المساجد أولى.
ولذلك ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي  أنه قال: «إذا استعطرت المرأة فمَرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا»، وفي رواية: «فهي زانية»( ).
روى عبد الرزاق في مصنفه( ) عن يحيى بن جعدة قال: خرجت امرأة في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه متطيبة فوجد ريحها، فعلاها بالدرة، ثم قال: «تخرجن متطيبات فيجد الرجل ريحكن؟ وإنما قلوب الرجال عند أنوفهم، اخرجن تَفِلات».

فصل في السفر

ومنها: ألا تخرج مسافرة إلا مع ذي محرم، فإن ذلك يعرضها إلى الاختلاط بالرجال والخلوة مع الأجانب، ومحادثتهم، وربما طمع فيها من في قلبه مرض، أو تعلق قلبه بها، وقد يتعلق قلبها بأجنبي، فإن المرأة ضعيفة وربما سهل خداعها وهي مظنة الشهوة والطمع، ولا يَغَارُ عليها مِثلُ محارمها الذين يرون أن النيل منها نيلٌ مِن عرضهم وشرفهم وكرامتهم.
وعلى كل حال فلقد ورد النهي الصريح عن سفر المرأة بدون محرم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي  يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: «انطلق فحج مع امرأتك»( ).
فما بالكم معاشر المسلمين بأمرٍ جعل النبي  يأمر مِن أجله مَن اكتُتِب للجهاد في سبيل الله أن يترك الجهاد وينطلق ليحج مع امرأته حتى لا يتركها مسافرة بدون محرم.
ولا شك أن منع سفر المرأة بدون محرم في هذه الأزمان أولى من ذي قبل، لقلة الديانة وكثرة الفساق، ناهيك عمن يتربصون بالنساء في غير ديارهن، وما يكون في وسائل المواصلات من مهاترات يندى لها جبين الصالحين، كما أن بُعْد المرأة عن أعين أهلها ومحارمها خاصة إذا كان ذلك لفترات طويلة، مع ضعفها، أدعى للخوف عليها، لاسيما إذا جُهلت الصحبة اللاتي معها.


فصل في الكلام مع الرجال

ومنها: التزام الأدب الشرعي في الكلام مع الرجال إن احتاجت الحديث معهم، فإنه لا مانع شرعًا من حديث النساء مع الرجال للحاجة بالضوابط الشرعية، وذلك بأن يكون الكلام مقتصرًا على قدر الحاجة، مع عدم الخضوع بالقول، سواءً في الكلمات المستخدمة أو في طريقة الكلام؛ فلا يجوز استخدام كلمات لا يليق استخدامها من ذوي العقل والتقوى والمروءة، كما لا يجوز التغنج في الكلام وترخيم الصوت وتليينه.
كذلك من الضوابط أن يكون الكلام من وراء حجاب، أي أن تكون المرأة محجبة أو مستترة عن الرجل بساتر، كما ينبغي ترك الحديث مع الفساق ومن يرتاب منهم.
ولقد خاطب الله تعالى أطهر هذه الأمة قلوبًا من الرجال والنساء بهذا الأدب الرفيع، والخلق البديع، قال سبحانه وتعالى مخاطبًا نساء النبي : ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]، وخاطب أصحابَ النبي  خير القرون بقوله: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 53].
فكيف بمن دونهم بلا شك في طهارة القلب، وهم إلى الفتنة أقرب.
ولقد قص الله تعالى في كتابه الكريم خبر موسى عليه السلام مع ابنتي الرجل الصالح شعيب عليه السلام، وما فيها من أدب جَمٍّ وخلق رفيع، حيث خرجتا لترعى الغنم، فلقيهما موسى عليه السلام في طريقه تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس، وكأنهما في أمر نزل بهما عظيم، فسألهما ما شأنكما, فأخبرتاه خبرهما وأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع أن يباشر أمر غنمه بنفسه وليس لهما من يقوم عنهما بهذا العمل، وهما لا تسقيان غنمهما حتى يرجع الرعاة لئلا تختلطا بهم، قال تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ [القصص: 23]؛ فاقتصر موسى عليه السلام في السؤال على قدر الحاجة، واقتصرتا هما في الجواب كذلك.
حتى لما رجعت إحداهما إليه لتبلغه دعوة أبيها جاءته مستحيية متعففة، وهذا هو سمت الصالحات، ليست كهؤلاء اللاتي يتكلمن مع الرجال بوقاحة من غير حياء، قال تعالى: ﴿فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا﴾ [القصص: 25] فهلا اقتدى كل مسلم ومسلمة بأدب الصالحين من عباد الله.
فلا ينبغي التساهل في حديث الرجال مع النساء بوجه من الوجوه، حتى ولو كان ذلك الحديث عن طريق الهاتف، فتنبهي؛ فقد يكون صوت المرأة جميلاً فاتنًا يحرك القلوب المريضة فيجرها إلى المعصية ويوقعها في بلية العشق، وليس هذا بغريب، فإن الأذن قد تعشق كما تعشق العين، قال بشار بن برد:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
        والأذن تعشق قبل العين أحيانا

ولذلك أُمِرَت النساء بتحري الجادَّة في الكلام مع الرجال الأجانب، ونُهِين عن الخضوع بالقول وترخيم الصوت والكلام فوق قدر الحاجة.
وبهذا النوع من الكلام والاستماع لمثله أثبت النبي  زنا اللسان والأذن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوي ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه»( ).

فصل

وينبغي على المرأة الصالحة العفيفة أن تجتنب مواطن التُّهَم ومظانَّ السوء، كما أن عليها أن تجتنب التعامل مع من يغلب على الظن فسقه، وسوء نيته وفساد طويته.
والمرأة في أمس الحاجة لهذا الأدب؛ لأن شرفها وحياءها كنز تملكه المرأة، والكلمة السيئة قد تخدش كرامتها، وتزهد ذوي المروءات فيها، وعلى العكس من ذلك، فإن المرأة كلما كانت عن التُّهَم ومظانِّ السوء أبعد، كلما عظم قدرها في أعين الناس.

فصل

ويجب على المرأة الالتزام بآداب الطريق العامة بالأساليب التي تناسب النساء، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي  قال: «إياكم والجلوس في الطرقات»، قالوا: يا رسول الله، ما لنا بُدّ من مجالسنا، نتحدث فيها، قال رسول الله : «فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه»، قالوا: وما حقه؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»( ).

فصل

ويجب على المرأة أن تكون مستقيمة في مشيتها، مقتصدة في حركتها، فلا تسرع مهرولة ولا تبطئ متدلِّلَة، إذا وقفت وقفت معتدلة غير متكسرة، وإن اضطرت للجلوس جلست متسترة.
ولتحذر حال صعودها شرف أو هبوطها، وعند ركوبها ونزولها، من أن ينكشف شيء من جسدها، فلتحتط عند ذلك لنفسها ولتلبَس سراويل تحت جلبابها، ولتجمع عليها أعضاءها.

    فصل

ولتحرص المرأة على اصطحاب إحدى صويحباتها الصالحات إن أمكن، فإن ذلك عن الفتنة والتهمة أبعد، وإلى السلامة والنجاة أقرب، خاصة إذا أرادت الخروج للأسواق ونحوها من الأماكن التي قد يجتمع فيها الصالح والطالح.

فصل

ولتستحضر المرأة نيةً صالحةً في الخروج، كما يُستحب لها حال سيرها أن تنشغل بذكر ربها من أول خروجها من بيتها إلى أن تعود إليه، فتلتزم أذكار الخروج من البيت ودخوله، وذكر دخول السوق إذا مرَّت به، ونحو ذلك من الأذكار الواردة في السنة، فإن أدَّت الأذكار المقيدة، التزمت مطلق الذكر، ولتشغل نفسها بالطاعة كي لا تنشغل بما سواها.
ولتترك فضول النظر وفضول الكلام، وكلَّ لغو لا فائدة منه؛ فإن الملهيات في الطرقات كثيرة، والنفس بطبيعتها قد تميل إليها، فيضيع الوقت فيما لا فائدة منه، وينشغل القلب عما هو أصلح له وأنفع في دنياه وآخرته.

فصل

وينبغي لها أن تبادر بالرجوع إلى دارها، وتسرع في العودة إلى بيتها بمجرد قضاء حاجتها التي خرجت من أجلها.
ولتكثر من الاستغفار عما قد يكون وقع منها من تقصير، فإن لم يكن ثمة تقصير فللانشغال بالمباح عن المستحب.

          



باب
في موعظة خاصة للمحتجبات

إذا كان هذا ما ينبغي للمرأة الصالحة أن تلتزمه من الآداب إذا خرجت من بيتها، فإنه من المؤسف أن تجد من المسلمات المحجبات من تخالف بعض هذه الآداب، مع العلم بأن مجتمع المحجبات هو أطهر المجتمعات النسائية على الإطلاق، خاصة إذا كُنَّ من طالبات العلم والمشتغلات بالدعوة إلى الله، فهؤلاء في موضع قدوة لغيرهن من النساء، ولابد أن يسلكن طريق الورع ويأخذن بالعزيمة، شكرًا لله على ما مَنَّ به عليهن من نعمة الالتزام بدين الله، وشرف الدعوة إليه، وحتى يؤثِّرن في غيرهن من النساء،  وليكتب الله لدعوتهن القبول في قلوب الناس؛ فإن الإساءة والتقصير من هؤلاء تكون سببًا في تنفير الناس وصدهم عن كتاب الله وسنة رسوله .
ولا شك أن بعض هذه الآداب قد يكون فيه نوع من المشقة، لكنَّها مشقة متحملة، فهي بمثابة المشقة التي يجدها المصلي والصائم والمجاهد في سبيل الله، وسرعان ما تشعر المرأة الصالحة معها بحلاوة الإيمان، إذا التزمتها طاعة لله ولرسوله ، وعن رضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد  نبيًا ورسولاً، وعدم التزام المرأة المحجبة بآداب الحجاب الشرعي قد يكون علامة على عدم إخلاصها؛ إذ إنها لو صدقت نيتها وأخلصت لربها في حجابها، لالتزمت بالصفات الشرعية لهذا الحجاب ولم تأت بما يناقضه، ولتركت ما تريده وتهواه إلى ما يحبه ربها ويرضاه.
ولتعلم المرأة المسلمة أن الحجاب إنما فُرِض لمنع الفتنة بالنساء وسَدِّ الذرائع إليها، حفاظًا على طهارة وعفة المجتمع المسلم، ولم يُشرع الحجاب لمجرد تغطية جسم المرأة فحسب؛ وعلى هذا، فإنه متى تخلفت صفات الحجاب التي تجعله يحقق المقصد الشرعي منه، أصبح هذا الحجاب غير شرعي، ويكون بألا يسمى حجابا أحق وأولى، وبمثله لم تكن المرأة قد امتثلت أمر ربها.
بل إن المرأة ربما تكون في بعض اللباس أكثر فتنة، كمن يكون جمالها في عينيها، ولون بشرتها تحت النقاب الذي يضفي عليها حسنًا وبهاءً.
ويحكى أن أعرابيًا كانت تضايقه البراقع قديمًا؛ لأنها تمنعه من التمتع بالنظر إلى الحِسَان، وتخدعه في غير الحِسَان فيحسبهن حسانًا، فقال:
جزى الله البراقع من ثياب
يوارين الحسان فلا نراها
        عن الفتيان شرًا ما بقينا
ويسترن القباح فتزدهينا

فالعين مكمن الحسن، ولذلك وصف الله تعالى الحور بقوله: ﴿حُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: 22]، ويقول الشاعر مبينًا أثر العيون في فتنة الرجال:
إن العيون التي في طرفها حور

    قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

    وهن أضعف خلق الله إنسانا

أما الصالحات التقيات، فالحديث عنهن فخرٌ واعتزاز، فهن يبالغن في الستر والعفاف حتى إنهن يسترن أطراف الأصابع فلا تبدو منهن أنملة، وذلك من كمال تقواهن وإخلاصهن لله تعالى.
يسترن أطراف البنان من التقى


    ويخرجن في جنح الليل معتجرات

فلتتق المرأة ربها ولتَقَرَّ في بيتها، فإن احتاجت للخروج فلتلتزم آداب الإسلام في ذلك، ولتحذر المرأة المتحجبة ـ خاصة الداعية إلى الله تعالى ـ من أن يُزَين لها الشيطان سوء عملها، فتتساهل في بعض الآداب، فتكون داعية إلى الله بقولها صادة عنه بفعلها.

وختامًا؛ فعلى ولاة الأمور، ومن استرعاهم الله تعالى على عباده أن يتابعوا أهليهم وبناتهم ومن ولاهم الله أمرهم في تعلم هذه الآداب والعمل بها امتثالاً لأمر الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6]، وأداءً للأمانة التي حملوها وقيامًا بالمسئولية التي أنيطت بهم بقوله : «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الأعظم الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»( ).
وعلى كل مسلم بيان هذه الآداب والدعوة إليها، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر ودعوة للناس إلى الله تعالى، وإسداءً للنصيحة لكل مسلم.
نسأل الله تعالى أن يَمُنَّ علينا وعلى سائر المسلمين بالتزام هدى الإسلام ظاهرًا وباطنًا، وأن يغفر لنا ما قد يكون في سرنا وعلننا، إنه سبحانه هو حسبنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى سائر الأنبياء والمرسلين ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.



          







الفهرس

مقدمة    5
باب في بيان استحباب قرار النساء في البيوت    9
باب في ذكر جملة من الآداب التي ينبغي على
المرأة أن تلتزمها إذا أرادت الخروج من البيت    15
فصل في إذن الولي    16
فصل في الحجاب    18
فصل في الاختلاط    27
فصل في الخلوة    29
فصل في التعطر    32
فصل في السفر    34
فصل في الكلام مع الرجال    35
باب في موعظة خاصة للمحتجبات    42


          

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire